“التحية” بــــــذرة لصناعة السلام
28 يناير، 2024
556
ما سر ورود آية التحية مع جو القتال الذي قبلها وما علاقتها بما بعدها؟
يمضي القرآن في بيان أهم استراتيجيات الأمن والحماية للأمة والإنسانية وهي استراتيجية أخذ الحذر فيتعمق في بيانها وذكر مبادئها وفي أثناء ذلك يذكر القوانين المهمة ومنها:
مبادلة التحية في التعامل مع الناس أجمعين في السلم والحرب، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء: 86].
التَّحِيَّةُ تَفْعِلَةٌ مِنْ حَيَّيْتُ، أي: ناديت ببقاء الحياة، وعَادَةَ العَرَبِ قَبْلَ الإِسْلَامِ أَنَّهُ إِذَا لَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَالُوا: حَيَّاكَ اللَّه، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الحَيَاةِ كَأَنَّهُ يَدْعُو لَهُ بِالحَيَاةِ..
فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلَامُ خص الله التحية بلفظ أجمل وأعلى وأرقى وأنقى وأبقى وهو السَّلَام؛ لأنها تتضمن السلام مع وجود الحياة معها، وفي تقديم كلمة السلام على المخاطب تقديم لاسم الله، وإشاعة للسلام؛ كما قَالَ تَعَالَى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: 44]، {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } [النور: 61]، {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [المجادلة: 8]، وَمِنْهُ قَوْلُ المُصَلِّي: التَّحِيَّاتُ للَّه، أَيِ: السَّلَامُ مِنَ الآفَاتِ للَّه[1]،فقولنا في التشهد التحيات لله أي: تثبت الحياة الكاملة لله التي لا ينغصها شيء ولا تعتريها الآفات، فتحية الإسلام: السلام عليكم أجمل وأقوى من حياك الله، ورَدُّ الأَحْسَنِ أَنْ يَزِيدَ فَيَقُولُ: وعليكم السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، لِمَنْ قَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكَ، ثم يزيد وبركاته لمن زاد في الابتداء كما قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عن البيت الكريم {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ} [هود: 73]، ويبين ذلك قول رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «خَلَقَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ، وَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الـملَائِكَةِ جُلُوسٌ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ – قَالَ-: فَذَهَبَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّه، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللَّهِ» [2].
الـمناسبة والاتصال:
وتظهر المناسبة والاتصال بين آية التحية هذه مع جو السلم والقتال الذي قبلها والذي بعدها في الآيات في ثلاث جهات:
أما أولاها: فيدخل ضمن من تُرد عليه التحية المسلمون والمنافقون والمحاربون، فذكر الله المبطئين وأمر بالإعراض عنهم والحذر منهم، ولكنه بين هنا أن ذلك لا يعني عدم رد تحيتهم بأحسن منها أو ردها على الأقل لا يعني عدم التعامل معهم بالخلق الشرعي الحسن المتين المنضبط بالضوابط الشرعية، والتحية من أفضل وسائل زرع المحبة والمودة بين الناس، «وَمَعْنَى ﴿رُدُّوهَا﴾ رُدُّوا مِثْلَهَا، لِظُهُورِ تَعَذُّرِ رَدِّ ذَاتِ التَّحِيَّةِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا } [النساء: 176] فَعَادَ ضَمِيرُ ﴿ وَهُوَ ﴾ وَهَاءُ ﴿يَرِثُهَا﴾ إِلَى اللَّفْظَيْنِ لَا إِلَى الذَّاتَيْنِ» [3].
بل إن التحية مقدمةٌ رائعة لنزع فتيل الحروب المستعرة، فَقَوْلُهُ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]، إذ يلتقي المسلم مع الآخرين غيره من المسلمين، والمسالمين، والمنافقين، والمعتدين، فيدخلُ كل هؤلاء ضمن من تُرد عليه التحية، فاستراتيجية أخذ الحذر لا تعني عدم رد التحية على المعتدين فضلًا عن غيرهم، ولا تعني عدم التعامل معهم بالخلق الشرعي الحسن الـمتين، الـمنضبط بالضوابط الشرعية، وفي ذكرها تخفيف على المسلمين في لقائهم المحاربين حال المفاوضات؛ إذ إن الآية بظاهرها تدل على جوازها حتى بين المسلمين والمحاربين خلافًا لأهل العلم الذين قالوا بضد ذلك، فرَد السَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَاجِبٌ كَالرَّدِّ عَلَى المُسْلِمِينَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ تَمَسُّكًا بِعُمُومِ الآيَةِ وَبِالأَمْرِ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي صَحِيحِ السُّنَّةِ[4].
وقد قال إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ لِأَبِيهِ {سَلَامٌ عَلَيْكَ}، وأما حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لاَ تَبْدَءُوا اليَهُودَ وَلاَ النَّصَارَى بِالسَّلاَمِ فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ»[5]، فيظهر أن ذلك لحالة خاصة تقتضي ذلك، وإلا فالخلق الحسن من الأمور القطعية.. أرأيت رجلًا غفر الله له بسقيا كلبٍ، فكيف بالتعامل مع من قال الله فيهم: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } [البقرة: 83][6] .
وَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ قَالَ عَمَّارٌ: «ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ: الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ، وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ»، فالإسلام دين السلام. وهو لا يقاتل إلا لإقرار السلام في الأرض، بمعناه الواسع الشامل [7]، ويدل لذلك ما ورد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ، وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ»[8]، ويتم الرد حتى لو كان المراد من التحية السوء والعبث والكيد كما روى البخاري عن عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ اليَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَفَهِمْتُهَا، فَقُلْتُ: «وَعَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ» ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ وَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ»[9].
وأما ثانيها: فذكر القرطبي: «أَنَّهُ قَالَ: إِذَا خَرَجْتُمْ لِلْجِهَادِ كَمَا سَبَقَ بِهِ الأَمْرُ فَحُيِّيتُمْ فِي سَفَرِكُمْ بِتَحِيَّةِ الإِسْلَامِ، فَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا، بَلْ رُدُّوا جَوَابَ السَّلَامِ، فَإِنَّ أَحْكَامَ الإِسْلَامِ تَجْرِي عَلَيْهِمْ» [10].
وأما ثالثها: فهناك مناسبة جميلة تظهر في اتصال آية التحية بآية الشفاعة قبلها، فالشفيع يدخل على المشفوع عنده.. وكأن الله يحث المشفوع عنده أن يرد التحية؛ لتتم المؤانسة بين الطرفين، فتقضى الحاجة وتقبل الشفاعة، وفي إيجاب الرد زجرٌ لمن يأتي الناس إليه بشفاعاتهم الحسنة أن يضيق بكثرة الشفاعات، أو يتعالى عن ذلك لمكانته أو سلطانه، والعجيب من حال الناس هذه الأيام أن يبسط الله لهم في الجاه والعز والسلطان وبدلًا من أن يتخذوها مطية لآخرتهم ليسبق الناس في منازل الآخرة العلية يجعلونها وسيلة للتبرم وكثرة الشكوى من كثرة تردد المحتاجين عليهم.
ولأهمية الرد على التحية في إشاعة السلام في العالم يختم الله جل مجده الآية بالرقابة على محاولات مراوغة القوانين السابقة، فيذكر الناس بأنه حسيب على كل شيء.
ويُبَصِّرُنا بهذا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء: 86]، فمرجع الحساب التفصيلي النفسي، والفكري إلى الله تعالى.
[1] تفسير الرازي (10/ 161).
[2] البخاري (4/160) برقم (3326).
[3] التحرير والتنوير (5/ 147).
[4] تفسير القرطبي (5/ 304).
[5] صحيح مسلم (7 / 5) رقم 4030 .
[6] وقول الطبري في تفسيره (8/ 588): «وذلك أن الصِّحاح من الآثار عن رسول الله o أنه واجب على كل مسلم ردُّ تحية كل كافر بأخَسَّ من تحيته» قول لا تظهر وجاهته، والله أعلم.
[7] في ظلال القرآن (2/ 726).
[8] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (1 / 10) رقم 28 .
[9] أخرجه البخاري (4 / 44) برقم (6024).
[10] تفسير القرطبي (5/ 298).