إن الإسلام الذي جاء رحمةً للعالمين لا يذكر في القرآن الكريم الصفات المجرمة للمغضوب عليهم والضالين لأنهم عصوا الرحمن فقط، بل لأن عصيانهم يؤدي إلى الإجرام الممنهج على بني الإنسان، فقد ذكر الله أن المغضوب عليهم والضالين قومٌ ظهر منهم البغي فقال تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة: 90].

وبين الله أن بغيهم يربو وينمو ويفشو حتى يصبح اعتداءً ممنهجًا مدمِرًا {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61]، فانتقلوا من مرحلة البغي إلى مرحلة الاعتداء على الحقوق (حقوق الخالق وحقوق المخلوقين)، فانظر لترتيب جرائمهم التي أحلَّتْ عليهم غضب الله –تعالى جدُّه- وتأمل فيها كيف جاءت وَفق تحليلٍ لنفسياتهم العفنة وأهوائهم المتقلبة:

فهم كفروا بآيات الله، وبادروا فقتلوا الأنبياء، وهم خيرة الخلق الذين يقيمون في البشرية العدل والحق، وأما سبب وصولهم إلى هذا المستوى من الإجرام فبينه الله في قوله: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} فذكر الله أنهم بدؤوا بعصيانه، واجترؤوا على العدوان على بعض الخلق، وإصرارهم على ذلك أوصلهم إلى الكفر وقتل الأنبياء، فبدأ بذكر أبشع النتائج وعطف عليها الأساس الذي تساهلوا في فعله، فصارت قلوبهم شديدة السواد، لا نقاء فيها ولا صفاء، وهذا يولد القسوة المجرمة التي لا تبالي برؤية الأطفال وهم يقتلون أو يحرقون، ولا تحرك ساكنًا وهي ترى مئات الآلاف تباد.

إنها قسوة المغضوب عليهم والضالين الذين وصفهم الله بقوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] نعم يَجترئُ القلب القاسي على أسوأ أنواع الاعتداء على الأبرياء، ويجعل ذلك برنامجًا أساسيًا في حياته؛ بل يُكَرِّس حياته لذلك، فيصبح مسخًا كاذبًا لا حياة فيه؛ لا ينقذ الأبرياء، ولا يدافع عن الضعفاء، وتكون الغاية عنده تبرر الوسيلة حلالًا أو حرامًا، ثم يتطور به الأمر فيقتل الرضع، ويحرق الأطفال، ويهتك الأعراض، ويدمر الأراضي؛ والأدهى من ذلك أنه يستمتع بذلك كله، بل ربما جعلها مهمةً مقدسةً يقيم لها المؤسسات الأمنية والعلمية والاستشارية حتى يصبح حال أصحابه كما قال الله -عزَّ وجل-: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 78 – 80].

الإعجاز في وصف مجرمي اليهود بأنهم مغضوب عليهم:

سبق ذكر الآيات القرآنية التي بين الله فيها إنزال غضبه على المعتدين من بني إسرائيل بسبب جرائمهم المتتابعة في حق أنفسهم وجرائمهم في حق العالم، والعجيب أننا نجد في (كتابهم المقدس) وصفًا دقيقًا لإنزال غضب الله على بني إسرائيل في مواضع كثيرة، فمنها:

في سِفر العدد

(25: 3) وتعلق إسرائيل ببعل فغور، فحمي غضب الرب على إسرائيل.
(25: 4) فقال الرب لموسى خذ جميع رؤوس الشعب، وعلقهم للرب مقابل الشمس، فيرتد حمو غضب الرب عن إسرائيل.

وفي سفر العدد أيضًا:

(32: 1) فحمي غضب الرب في ذلك اليوم وأقسم قائلا:
(32: 11) لن يرى الناس الذين صعدوا من مصر من ابن عشرين سنة فصاعدًا الأرض التي أقسمت لإبراهيم وإسحق ويعقوب؛ لأنهم لم يتبعوني تمامًا.
(32: 12) ما عدا كالب بن يفنة القنزي ويشوع بن نون؛ لأنهما اتبعا الرب تمامًا.
(32: 13) فحمي غضب الرب على إسرائيل وأتاههم في البرية أربعين سنة، حتى فني كل الجيل الذي فعل الشر في عيني الرب.

وفي سفر القضاة:
(10: 6) وعاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب، وعبدوا البعليم، والعشتاروث، وآلهة آرام، وآلهة صيدون، وآلهة مواب، وآلهة بني عمون، وآلهة الفلسطينيين، وتركوا الرب ولم يعبدوه.
(10: 7) فحمي غضب الرب على إسرائيل، وباعهم بيد الفلسطينيين وبيد بني عمون.

وبعد هذا النقل ينبغي أن نقرر حقيقةً لا تخطئها العين في التوراة الحالية؛ إذ نجد غضب الرب على بني إسرائيل قد تكرر كثيرًا في التوراة الحالية، حتى تتعجب من عدد الجرائم الجماعية التي يقوم بها الإسرائيليون، وترى من خلالها تلك النفسيات المريضة المتمردة التي لا هم لها إلا استجلاب غضب الله، وهي ذاتها التي تتباهى بإنشاء المؤسسات الإجرامية التي تفسد في الأرض، وتسفك الدماء.

الإعجاز في وصف التائهين من النصارى بالضالين (دعوةٌ مشفقة للنصارى لتصحيح المسار):

حقًّا إن القرآن الكريم تنزيلٌ معجزٌ من حكيمٍ حميدٍ؛ إذ لا يمكن أن يُدْرِكَ حكمة هذا الوصف (الضالين) الملصق بالنصارى قبل غيرهم إلا من كان له اطلاعٌ واسعٌ، ومعرفةٌ دقيقةٌ بتاريخ نشوء المسيحية، وتطورها في عهدها الأول، وانحرافها عما بناه لها مؤسسها المسيح -عليه الصلاة والسلام-، فقد جاء المسيح بمعالم واضحة تؤسس لدين قيم يتبع ملة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، ويجدد شريعة موسى -عليه الصلاة والسلام- حيث قال الله حاكيًا عنه: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [آل عمران: 50، 51].

وكذا ورد في الإنجيل الموجود الآن حيث جاء في إنجيل متى (5: 17): (لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس، أو الأنبياء، ما جئت لأنقض، بل لأكمل). وما هو إلا زمنٌ يسير حتى ضل كثيرٌ من أتباع المسيح عن سواء السبيل، واتبعوا ملة بولس وسموه الرسول، ووضعوا له في الكتاب المقدس أربع عشرة رسالة، ولنأخذ على ذلك شهادة العالم المسيحيِّErnest de Bunsen: “إن العقيدة والنظام الديني الذي جاء في الإنجيل ليس الذي دعا إليه السيد المسيح بقوله وعمله.

إن مرد النزاع القائم بين المسيحيين اليوم وبين اليهود والمسلمين ليس إلى المسيح، بل إلى دهاء بولس Paul ذلك المارق اليهوديُّ والمسيحيُّ، وشرحه للصحف المقدسة على طريقة التجسيم والتمثيل”.

يا حسرةً عليهم! لقد اخترع هؤلاء الضالون عقيدةً خرافيةً امتزجت فيها ظلام الأساطير اليونانية الوثنية وخرافاتها بنور التوحيد الذي جاء به المسيح -عليه الصلاة والسلام-؛ فأنتج عقيدةً ذات صورة مروعةٍ مخيفةٍ بنتها على أفكارٍ رهيبةٍ، كفكرة الخطيئة الأصلية، ورتبت عليها صكوك الغفران، والتلاعب الضخم بالإنسان (المسيحيِّ) الذي يريد التدين، ولكنه يريد في الوقت ذاته أن يحطم العالم بنزواته وشهواته وتحكمه وسيطرته، فيفعل في البشرية ما شاء، ويكفيه الاصطفاء الكنسي الذي أعطى لأرباب الكنيسة سلطة إلهية شركية زعموا فيها: “أن النخوة الإنسانية خلقت قوة الملوك، وأن رحمةَ الله خلقت القديسين”.

وانظر المآسي العالمية كيف تنبع بإشراف تحكم (رؤوس الضالين) في أعلى هيئةٍ أممية. انظر بعينيك في عالم الواقع المعاصر البائس الذي خلقته سيطرة المغضوب عليهم والضالين لترى كيف بلغ الضلالُ (المسيحيُّ) مداه بقبول الكنائسِ التحريفَ الدائمَ للكتابِ المقدَّس مما جعل أذكياء النصارى لا يستطيعون صبرًا على هذا التحريف المتجدد؛ فقد كتب إسحاق نيوتن رسالته (وصف تاريخي لتحريفين مهمين للكتاب المقدس)، وبالإنكليزية An Historical Account of Two Notable Corruptions of Scripture)، وطبعت بعد موته ب 27 سنة، وأهم التحريفين المذكورين هو التحريف الذي أريد منه تثبيت بدعة التثليث الكفرية، حيث وجد في نسخة الملك جيمس في يوحنا 5: 7 “فإنَّ هنالك ثلاثة شهودٍ في السَّماء، الآب والكلمة والرُّوح القدس، وهؤلاء الثَّلاثة هم واحدٌ”

كشف نيوتن هذا التحريف الخبيث بالرجوع إلى المخطوطات اليونانية واللاتينية الأصلية حيث لم توجد هذه الفقرة، وبين أن “النسخ الأثيوبية والسريانية والعربية والأرمنية والسلافية التي ما زالت تستعمل في عدةِ أممٍ شرقيةٍ -أثيوبيا، ومصر، وسوريا، والعراق، وأرمينيا، وموسكو، وغيرها- لا تعرف هذه القراءة”، وأوضح أن الكاردينال غونزالو سيسنيروز أول من وضعها في النص اليوناني سنة 1515م. فلماذا لا يكشف أرباب كبار القسيسين عن مثل ذلك أمام الرأي العام (المسيحيِّ)؟!

هناك اختراقٌ أخطر حققه من ينتمي إلى فئة (المغضوب عليهم) من الصهاينة الذين يسعون في الأرض فسادًا، أو سيق إليهم على طبقٍ من ذهبٍ يزيدك وعيًا بسبب وصف المنحرفين من النصارى بالضلالة، ففي عام 1523م أصدر مارتن لوثر مؤسس الفرقة البروتستانتية المسيحية كتاب (المسيح ولد يهوديًا) ليؤسس عقيدةً رهيبةً تجعل كل الأحداث العالمية رهنًا لخرافاتٍ يهوديةٍ متعصبة، ويتم بها التلاعب بالعقلية النصرانية للأسف الشديد؛ فقد كان من ضمن المفاهيم الجديدة التي أكدها لتكون أهم همٍّ مسيحي (رجوع المسيح)، وهي عقيدةٌ يتفق عليها المسلمون والنصارى، ولكن شرط المجيء الثاني له -حسب التصور المسيحي الجديد- إقامة دولة لليهود في فلسطين، وكل من يساعد على ذلك يكون له نصيب في ملكوت الرب، وكل من يعرقله يبوء بغضبه، وصارت هذه الفكرة المركزية أهم أساس للسياسة الغربية البروتستانتية في بريطانيا والولايات المتحدة، ثم تبعها على عمى الدول الكاثوليكية، وكلهم يتكلم عن حمل شرف إعادة إسرائيل إلى أرض أجدادهم، لأن وجودهم هناك هو الذي سيمهد للمجيء الثاني للرب المسيح، وأكد بنيامين نتنياهو عندما كان مندوبًا لإسرائيل في الأمم المتحدة أن هذه العقيدة -الضلالة الكبرى- هو المحور الذي أدار عقل أبرز قيادات المسيحية المعاصرة: كاثوليك وبروتستانت ثم أرثوذكس حيث قال: “إن كتابات المسيحيين الصهيونيين من الإنكليز والأمريكان أثرت بصورة مباشرة على تفكير قادة تاريخيين، مثل لويد جورج، وآرثر بلفور، وودرو ولسون، في مطلع هذا القرن.

إن حلم اللقاء العظيم أضاء شعلة هؤلاء الرجال، الذين لعبوا دورًا رئيسيًا في إرساء القواعد السياسية والدولية لإحياء الدولة اليهودية”، ولقبهم بـ”المسيحيين الصهيونيين”، واستمر الأمر على اعتماد سياسة مركزية القضية الصهيونية في الاعتقاد المسيحي الضال حتى اعتنق تلك القضية رؤساء أمريكيون، ومنهم “ريغان” و”البوشان” الكبير ثم الصغير، ومن قبلهم أصدر الرئيس ترومان بيانًا طالب فيه بإدخال مئة ألف يهودي فورًا إلى فلسطين، وكان له دور مشهود بجانب اليهود في حرب 1948م الذي قال عن نفسه: “إنني كورش..إنني كورش” إشارة إلى مقارنته نفسه بالزعيم الفارسي الذي أعاد اليهود إلى فلسطين بعد التدمير الأول الذي حدث لدولتهم.. وهكذا أدارت الصهيونية المعاصرة العقلية المسيحية الضالة حول هذه الفكرة الرهيبة: وجود إسرائيل تحقيق للنبوءات التوارتية، وهو تسريع لعودة المسيح، والعالم يقترب من نهايته من خلال معركة هرمجدون التي سيموت فيها الملايين! تخيل هذه الضلالات التي سببت الشقاء العالمي هي التي يدير المغضوب عليهم والضالون سياستهم المعاصرة عليها.

كم يشعر المرء بالأسى على العقليات النصرانية (المسيحية)! فهي تهرب من ضلالةٍ لتقع في ضلالة أكبر.. هربت من ضلالة البابوية المنحرفة لتتمحور حول الضلالة الصهيونية! انظر إليهم يضيفون على الضلالات البولسية الضلالات اللوثرية! مالهم يجعلون حياتهم الفكرية والدينية تتمحور حول (البولسية) في القديم و(اللوثرية) في القريب، ليصنعوا لهم ديانةً مزيفةً {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 24].. كم سببت قيادات الضالين من إفسادٍ عالمي لأقوامهم ثم للعالم من بعدهم {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 54 – 56].

وإذا كان المعتدون من اليهود والنصارى يشكلون قيادات الفرق المغضوب عليها والضالة، فإن من يتولاهم من المنافقين والذين في قلوبهم مرض يأخذون الحكم ذاته، وهم يشتدون في الاعتداء على غيرهم من العالم خاصة على أهل الإسلام لإثبات الولاء الشيطاني، ويبالغون في ذلك ليصلوا حدًّا لا يُعْهَد من المعتدين من أهل الكتاب، وهذا نجده واضحًا في الفرق الخائنة والمجرمة عبر التاريخ؛ إذ هدموا من المساجد، وأحرقوا من الأطفال، وهتكوا من الأعراض، وقتلوا من الرجال أضعاف ما يذكر عن أسيادهم {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} [الصافات: 174، 175].


الكلمات المفتاحية: سورة الفاتحة