المقالات

جنايات بحق البشرية (2)

أ.د/ عبد السلام المجيدي

من أعظم جنايات أهل الضلالة والإضلال في التعدي على حقوق أنفسهم وعلى سائر البشرية

بعد أن عرَّف الله جل جلاله البشرية بالجنس القيادي الذي يمنع الحقوق الإنسانية، وجعل أهم أهدافه في الحياة أن يشتري الضلالة ويعمل على إضلال العالم، فضح هنا بعض جناياتهم الكبرى التي اقترفتها قياداتهم العلمية والسياسية في حق أنفسهم والعالـم (في الآيات:47-57، من سورة النساء)، ومنها:

الجناية الثانية: عدم إعلام الرأي العام العالـمي بخطورة الوقوع في الشرك مع أنه يمثل الخيانة العظمى، والظلم الأكبر، بل يسهمون في تزيينه للعالم للأسف. ويُبَصِّرُنا بذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]، فتدرج الأمر عندهم من إنكار نبوة النبي الخاتم إلى التواطؤ على عدم إعلام البشرية بأهم المخاطر التي تقابلها، وهو الوقوع في الشرك الأكبر.

انظر لخطورة الشرك الذي تبينه هذه الآية.. بلغ من خطورته وشؤمه وظلمه أن الرحمن الرحيم الذي رحمته وسعت كل شيء لا يغفر للمشرك.. فكيف ترى الجرم الذي يقترفه من لم يخبر البشرية بهذه الحقيقة العظيمة!؟ وهذه الآية من الآيات الحاكمة للفهم الإسلامي، وهي من المحكمات العظيمة التي نرجع إليها في كثيرٍ من المتشابهات.

فالسياق القبلي والبعدي يربط موضوع الشرك بأهل الكتاب؛ فإن لم يكونوا مشركين فقد حرموا العالم من حقه في معرفة الذنب الذي لا يغفره الله الرحمن الرحيم تعالى جده، وهو الشرك، ويترتب عليه أعظم مصير مستقبلي في حياة الإنسان، والشرك جريمة خطيرة تعني الانقطاع التام بين الله وعباده، فلا يبقى لهم أمل في مغفرة إن ماتوا وهم كذلك، ولخطورته ترى أن الله أظهر الاسمَ الجليل في موضعِ الإضمارِ فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] لزيادةِ تقبيحِ الإشراكِ وتفظيعِ حالِ من يتصف به [1]، فكيف لا يحذر الـمسلمون من خطورة الشرك؟ وكيف لا يحذر منه أهل الكتاب، والوصية الأولى من الوصايا العشر العظيمة هي: ألا يشركوا بالله شيئًا!؟

ففي سفر الخروج20:

1 ثم تكلم الله بجميع هذه الكلمات قائلًا: 2 أنا الرب إلهك، الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية 3 لا يكن لك آلهة أخرى أمامي 4 لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا، ولا صورة ما مما في السماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الـماء من تحت الأرض 5 لا تسجد لهن، ولا تعبدهن؛ لأني أنا الرب إلهك إله غيور.

ويدخل في هذه الجناية إخفاء صورٍ خطيرة من الشرك نتيجة للتشويش العالمي، والتحريف الفكري والنصي، مثل:

الصورة الأولى: شرك الإنكار لوجود إله فيتخذ المرء نفسه إلهًا بديلًا، وهو أقبح أنواع الشرك [2]:

إنه جحود الإله، وقد يقال له: شرك التعطيل، ويطلق عليه الآن: الإلحاد، يا لهذا الغباء المركب، والجهل المجتمع عندما يجحد المرء وجود إلهٍ خلقه.. فاستفتهم: من أين جاءوا؟ إنهم عندما يجحدون ربهم فإنهم يجحدون وجود أنفسهم.. ولذا فإن الملحد إن أنكر خالقه اتخذ نفسه إلهًا، وقد حاول فرعون إنكار وجود الله فتساءل: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23]؟ ثم تملص من نتيجة الحوار، فأعلن الإعلان الذي أحله البوار، وقال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23]، فهو يوهم العالم أنه لا يمكن وجود إله للكون إلا إذا رآه فرعون، فما حجم فرعون ليستحق أن يطلع إلى إله السموات والأرض؟ وبعد ذلك أكمل مغالطاته أمام الناس فأصدر لهم مرسومًا قال فيه: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، ثم زاد في صلفه فنفى وجود أي إلهٍ سواه، فقال: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، وبهذه المغالطة أنكر وجود رب العالمين.. ماله.. ماله؟ كيف ينكر وجود صانعه؟ فما رأيكم بمن ينكر وجود نفسه؟ ذلك ما يعنيه تمامًا من ينكر وجود صانعه؟.

والمأساة هنا أن بعضًا من أهل الكتب الثلاثة (التوراة والإنجيل والقرآن) لا يوجد عندهم أدنى تفاعل في تعليم الناس خطورة هذا النوع من الشرك بينما يشنون حربًا إعلامية ضروسًا ذات هوسٍ مقززٍ على من يحذر من هذا الشرك، وحرموا العالم من معرفة خطورة هذا النوع من الشرك.

وأما الصورة الثانية: شرك المساواة الذي يتم بعبادة غير الله، أو عبادة غير الله مع الله:

كمن زعم أن المسيح هو الله، أو أن الله ثالث ثلاثة، أو عبد الحجر أو الشجر أو البقر مع الله أو من دونه.. فإذا مارس ذلك من يظهر منهم التفوق الدنيوي الحضاري صار فتنة؛ إذ يتم الربط بين دينه الخرافي وبين تفوقه الدنيوي مع أن التفوق الدنيوي يتعلق بمدى وجود العدل الاجتماعي والأخذ بالأسباب البشرية في العمل والإنتاج.

وترى الذين أوتوا الكتاب عندما كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه أسهموا إسهامًا فعالًا في حرمان العالمين من حقهم في معرفة حقيقة نبوة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم ، وهم بذلك حرموهم من أحق حقوقهم في الدنيا، وهو معرفتهم بالله التي لا يمكن أن تتحقق كما ينبغي إلا بذكر وحدانيته وعدم الشرك به سبحانه..

إن عدم تصور مقدار بشاعة هذه الجريمة جرَّأهم على دعم الذين يفسدون في الأرض، وإمدادهم بالسلاح وتنسيقهم المخابراتي مع الأنظمة التي تقتل المستضعفين من الرجال والنساء والأطفال.. انظر إلى العالم الحائر من الشرق إلى الغرب.. من الدول المتقدمة تكنولوجيًا إلى الدول الفقيرة.. من الدول الكافرة إلى المسلمة.. انظر إليهم جميعًا كيف يتبعون الكتابيين.. فيالَـجناية الكبراء المتبوعين على الأتباع الحائرين الضالين، ويالَـجناية المسلمين عندما يصرون على التبعية السياسية والثقافية لهم ولا يظهرون هذا الحق المبين. ولذا أكد الله على أنه لا يغفر لمن يشرك به حتى لا يقولوا مع ارتكابهم لهذه الجناية العظيمة: سيغفر لنا، فبين الله لهم ولنا وللعالمين أن من انتهك الحدود حتى وصل إلى الشرك فقد وصل إلى منطقة لا يمكن له أن يجد معها الغفران، وصحح هذه النظرة العنصرية المقيتة عندهم، وعند من يحذو حذوهم من هذه الأمة.

وأما الصورة الثالثة: شرك التشريع:

بتحويل الدين ليكون تابعًا للأهواء والرغبات الشخصية، فيؤخذ منه ما يوافق الشهوة ويطرح غير ذلك، أو يتم إعطاء حق التشريع المطلق للأفراد والمجالس بعيدًا عن الثوابت الشرعية الحاكمة للتفصيلات التشريعية، وهذا الذي يجعل المشرع البشري إلهًا من دون الله.. ألا ترى كيف صار بعض أهل الكتاب ولحقهم بعض المسلمين يمارسون هذا النوع المقزز صراحةً ويتباهون به حتى أفضى بهم الأمر إلى أن يقننوا القوانين التي تمنع العدل وتنصر الظالم في المجالس الدولية من خلال ما يسمى بحق الفيتو؟.. وهذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لواحد من أهل الكتاب هو عدي بن حاتم، ويحكي عدي ذلك، فيقول: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: «يا عدي اطرح عنك هذا الوثن» وسمعته يقرأ في سورة براءة {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] قال: «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه» [3].

وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من كل صور الشرك الظاهرة والخفية حتى روى معقل بن يسار يقول: انطلقت مع أبي بكر الصديق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أبا بكر للشرك فيكم أخفى من دبيب النمل» فقال أبو بكر: وهل الشرك إلا من جعل مع الله الهًا آخر؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده للشرك أخفى من دبيب النمل. ألا أدلك على شيء إذا قلته ذهب عنك قليله وكثيره؟ قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم» [4]، فالرياء مثلًا شرك أصغر، فكما أنه إله واحد، لا إله سواه، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده وقد قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].

وذكر أبو البقاء أن أنواع الشرك تتمثل في:

شرك الِاسْتِقْلَال: وَهُوَ إِثْبَات إِلَهَيْنِ مستقلين كشرك المَجُوس، وشرك التَّبْعِيض: وَهُوَ تركيب الإِلَه من آلِهَة كشرك بعض النَّصَارَى. وشرك التَّقْرِيب: وَهُوَ عبَادَة غير الله ليقرب إِلَى الله زلفى، كشرك مُتَقَدِّمي الجَاهِلِيَّة. وشرك التَّقْلِيد: وَهُوَ عبَادَة غير الله تبعا للْغَيْر، كشرك متأخري الجَاهِلِيَّة. وشرك الأَسْبَاب: وَهُوَ إِسْنَاد التَّأْثِير للأسباب العادية، كشرك الفلاسفة والطبائعيين وَمن تَبِعَهُمْ على ذَلِك. وشرك الأَغْرَاض: وَهُوَ العَمَل لغير الله.

فَحكم الأَرْبَعَة الأولى الكفْر بِإِجْمَاع، وَحكم السَّادِس المعْصِيَة من غير كفر بِإِجْمَاع، وَحكم الخَامِس التَّفْصِيل، فَمن قَالَ فِي الأَسْبَاب العادية إِنَّهَا تُؤثر بطبعها فقد حُكيَ الإِجْمَاع على كفره [5].

وفعل الغافلين من أهل الكتب الثلاثة في عدم التحذير من الشرك، يأتي عكسه في فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد بذل كل وسع في التحذير من الشرك؛ حتى قال صلى الله عليه وسلم: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد» [6]، وقال: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا، لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» [7]، حتى ورد عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم: أُتيَ بأسيرٍ، فقال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عرف الحق لأهله» [8].

الجناية الأولى: حرمان العالم من معرفة الهدى الحقيقي بعدم الإيمان بما أنزل الله من البيانات الإلهية المتأخرة ، وهذا يقتضي كفرهم بالبيانات الإلهية المتقدمة كما أن ذلك يعني أنهم يريدون أن يفرضوا على ربهم الإيمان بالطريقة التي يريدونها، ويُبَصِّرُنا الله بذلك في قوله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 47]:

فالخطاب ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ يبصرك دائمًا بالتفاعل معهم، والتحاور مع قياداتهم والرأي العام عندهم مهما رأينا عنادهم، وينبغي مناداتهم بأحسن الألفاظ، وهو نسبتهم إلى الكتاب، وهنا ينبغي أن نخاطب الـمتلاعبين منهم بأنهم يجب أن يؤمنوا بما أنزل الله من البيانات الإلهية المتأخرة؛ لأن ذلك مقتضى الكتب الإلهية الـمتقدمة، وإن لم يفعلوا فعليهم مواجهة التهديد الإلهي.. لقد عاد إلى مخاطبة الذين أوتوا الكتاب على العموم ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾، وربما تساءلت: لماذا خاطبهم بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ مع أنه وصفهم سابقًا بأنه أوتوا نصيبًا؟

هنا تلمح أمرين في البيان القرآني:

أما الأول فيتم على القول بأن الآية الرابعة والأربعين كلام عام في أهل الكتابين ثم خصص في السادسة والأربعين اليهود بالذكر ثم عاد ليكلمهم على العموم وليس القيادات فقال لهم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ﴾ أي آمنوا بالقرآن المجيد وما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من السنة المطهرة؛ فالإيمان بالتوراة يقتضي الإيمان بالقرآن، ولماذا لم يقل آمنوا بالقرآن مباشرة؟ لعل ذلك لأنه أراد أن يذكر القرآن بالخاصية المشتركة له مع الكتب الإلهية وهي النزول أي المصدرية الإلهية ليضمن هذا الوصف البرهان على ضرورة أن يؤمنوا بالقرآن إن كانوا حقًا يؤمنون بالتوراة، وليعم الإيمان للقرآن والسنة المقبولة.

وأما الثاني فيتم على القول بأن الخطاب هنا لليهود كما كان الكلام عنهم في الآية السابقة إلا أنه لما قال عنهم في الآية الرابعة والأربعين: {أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} [النساء: 44] أراد أن يوبخهم على مَا أَضَاعُوا وَحَرَّفُوا، فناسبه أن يهون من شأن عِلْمِهِمْ بِمَا أُوتُوهُ مِنَ الكِتَابِ، بينما هنا أراد أن يلزمهم بمقتضى مَا حَفِظُوا وَعَرَفُوا، ولأن المقصود بالخطاب في المقام الأول أحبار بني إسرائيل، فناسبه أن يرغبهم بِأَنَّهُمْ شُرِّفُوا بِإِيتَاءِ التَّوْرَاةِ لِتُثِيرَ هِمَمَهُمْ للقيام بمقتضيات ذلك فيؤمنوا، ولو آمن فريق معتبر من القيادات لآمن اليهود جميعًا، فقد قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو آمن بي عشرة من أحبار اليهود لآمن بي كل يهودي على وجه الأرض» [9].

العقوبة التهديدية المرعبة:

يهدد الله كلَّ من عرف الحقيقة أو قارب أن يعرفها من أهل الكتاب إن لم يؤمنوا بما أنزل الله مصدقًا لما معهم أصابهم بالعقوبات، وأشار إلى حوادث بعينها يعرفونها كقصة أصحاب السبت {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 47]:

وهذه عقوبة مرعبة تزلزل الأقدام، وتقشعر منها الجلود، وترجف منها القلوب، وترتعد منها الأنفس الصادقة، وهي ليست عقوبة خاصة بأهل الكتاب بل تشمل كل من يسمعها ممن يتعالى على الإيمان ومقتضياته جزئيًا أو كليًا حيث سيحدث له الطمس الحسي أو المعنوي.. أفلا يحذر من تباطئه عن إجابة نداء ربه؟ وما للمنتسبين إلى أمة الإسلام يقترفون الإجرام الذي يناقض إيمانهم وهم يمرون على هذا التهديد الرهيب ثم لا يخافون أن يصيبهم؟

فمعنى نطمس: نمحوها فنسويها، فلا يرى فيها عين ولا أنف ولا فم ولا شيء مما يرى في الوجه، والطَّمْسُ إِزَالَةُ الأَثَرِ بِمَحْوِهِ، أَوْ خَفَائِهِ كَمَا تُطْمَسُ آثَارُ الدَّارِ، وَأَعْلَامُ الطُّرُقِ بِنَقْلِ حِجَارَتِهَا أَوْ بِالرِّمَالِ تَسْفُوهَا الرِّيَاحُ عَلَيْهَا، وَمِنْهُ: { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس: 88] ، أَيْ: أَزِلْهَا وَأَهْلِكْهَا، وَالطَّمْسُ عَلَى الأَعْيُنِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} [يس: 66] ، يَصْدُقُ بِإِزَالَةِ نُورِهَا وَبِغُؤُورِهَا وَمَحْوِ حَدَقَتِهَا، ومن ذلك قوله تعالى: {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} [القمر: 37]، والمطموس العين: الذي ليس بين جفنيه شق، ويقال: طمست الكتاب والأثر فلا يرى منه شيء.

وَالأَدْبَارُ: جَمْعُ دُبُرٍ، وَهُوَ الخَلْفُ وَالقَفَا، وقوله: {فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء: 47] إما أن يراد به انقلاب ما في الوجه ليكون في الخلف، وإما أن يراد أن تفر أصحاب هذه الوجوه فزعًا وهلعًا، فترجع إلى الضلالة التي فرت منها ابتداء، ومن الارتداد على الأدبار أن يقصد المرء الهدى المشرق المبين، ثم يهرب فزعًا منه جزعًا من رؤيته حاقدًا عليه، وهو الذي قال الله فيه: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ } [محمد: 25].

هل هذه العقوبة معنوية أم حسية؟

فبعض أهل العلم جعل الطمس معنويًا، والمعنى: آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهَ مَقَاصِدِكُمُ الَّتِي تَوَجَّهْتُمْ إِلَيْهَا فِي كَيْدِ الإِسْلَامِ، وَنَرُدَّهَا خَاسِئَةً حَاسِرَةً إِلَى الوَرَاءِ بِإِظْهَارِ الإِسْلَامِ وَنَصْرِهِ عَلَيْكُمْ وَفَضِيحَتِكُمْ فِيمَا تَأْتُونَهُ بِاسْمِ الدِّينِ وَالعِلْمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ.

وبعضهم جعله حسيًا لكنه معنى مجازيٌّ، والمقصود به الجلاء، فرجعوا من حيث جاءوا إلى بلاد الشام كما حدث لبني النضير وقريظة، فنقل عن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن زَيْدٍ قال: هَذَا الوَعِيدُ قَدْ لَحِقَ اليَهُودَ وَمَضَى، وَتَأَوَّلَ ذَلِكَ فِي إِجْلَاءِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ إِلَى الشَّامِ، فَرَدَّ اللَّه وُجُوهَهُمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ حِينَ عَادُوا إِلَى أَذْرِعَاتَ وَأَرِيحَاءَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، كَمَا جَاءُوا مِنْهَا بَدْءًا، وَطَمْسُ الوُجُوهِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَقْبِيحُ صُورَتِهِمْ يُقَالُ: طَمَسَ اللَّه صُورَتَهُ كَقَوْلِهِ: قَبَّحَ اللَّه وَجْهَهُ، وَالثَّانِي: إِزَالَةُ آثَارِهِمْ عَنْ بِلَادِ العَرَبِ وَمَحْوُ أَحْوَالِهِمْ عَنْهَا.

وبعضهم جعل اللفظ حقيقيًا، وأبقى التهديد قائمًا، وقد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة، والعقوبة الحسية هي الأصل؛ فإن الطمس المعنوي واقع عليهم من خلال أفعالهم المجرمة، وتحركاتهم الآثمة، وقلوبهم القاسية المظلمة.

والجمع بين دعوة أهل الكتاب إلى اتباع الحق البين وبين تذكيرهم بالتهديد الإلهي الذي يحذرهم من العقوبة الأخروية له أثرٌ حقيقيٌ على من كان عنده بقية تقوى منهم، وقد حدث ذلك لكعب بن ماتع الحميري حيث أقبل وهو يريد بيت المقدس، فمرّ على المدينة، فخرج إليه عمر فقال: يا كعب، أسلم! قال: ألستم تقرأون في كتابكم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] ؟ وأنا قد حملت التوراة! قال: فتركه. ثم خرج حتى انتهى إلى حمص، قال: فسمع رجلا من أهلها حزينًا وهو يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 47]. فقال كعب: يا رب آمنت، يا رب أسلمت! مخافة أن تصيبه الآية، ثم رجع فأتى أهله باليمن، ثم جاء بهم مسلمين[10].

وهذا يجعلنا نؤكد على الحقيقة العظيمة وهي أن يكون الخطاب الدعوي جزءًا من الخطاب السياسي في تعاملنا العالمي وخاصة مع أهل الكتاب.

أ.د/ عبد السلام المجيدي

مفصل تفسير سورة النساء


[1] تفسير أبي السعود (2/ 187).

[2] تفسير القاسمي (3/ 153).

[3] سنن الترمذي (5 / 278).

[4] الأدب المفرد بأحكام الألباني  (1 / 250)، وصححه الألباني

[5] الكليات (ص 533).

[6] أحمد (1 / 405) وقال الأرناؤوط: إسناده حسن.

[7] أحمد (2 / 246)، وقال الأرناؤوط: إسناده قوي.

[8] أحمد(3 / 435) وقال الأرناؤوط: إسناده ضعيف لانقطاعه الحسن: وهو البصري لم يسمع من الأسود بن سريع.

[9] أحمد (2 / 346).

[10] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 446).


الكلمات المفتاحية: جرائم عالمية جنايات بحق البشرية