حماية أموال المرأة
15 نوفمبر، 2022
653
{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}
كيف عبر الله تعالى عن أخذ شيء من مال الزوجة عند فراقها بالبهتان والإثم المبين؟ وما الروعة والجمال في هذا التعبير القرآني الفريد المدهش؟
يتعجب الإنسان من حماية القرآن للمرأة في مالها سواء عند الزواج بها أو عند عشرتها وأخيرا عند فراقها، فتجد الله تعالى يؤكد على عدم جواز أخذ شيء منها عند فراقها، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله:
{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 20] وهذا تتمة لما تمَّ تقريره في قوله تعالى {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] من كمال ذمتها المالية، واستقلالها في التصرف بل إن سورة البقرة كما سيأتي أثبتت لها متعة مالية أو عينية أي هدية تستحقها عند الفراق:
لما بين حق الزوج في عضل الزوجة إذا أتت بفاحشة مبينة في الآية السابقة بين عدم جواز عضلها لأخذ شيءٍ منها إن لم تأت بفاحشة مبينة هنا، وكذلك إن لم يعضلها بل أراد استبدال زوجٍ مكان زوجٍ، فعند ذلك يحرم على الزوج أن يأخذ من مهرها أو مالها المهدى لها بعد الزواج أو مالها الذي كسبته منه، أو من غيره.. لا يجوز أن يأخذ شيئًا إذا كرهها الزوج ونشز عليها وأراد فراقها، فقال سبحانه: ﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ﴾ جديدة تعلق قلبكم بها ﴿ مَكَانَ زَوْجٍ﴾ سابقة قد رغبتم عنها، وشعرتم ألا قدرة لكم على مواصلة عشرتها مع أنها لم تأت بفاحشة مبينة ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾، حتى لو أعطاها قنطارًا من الـمال، والقنطار الـمال الكثير، فلا يضايقها احتيالًا على أخذ مالها، ولا يتعسف في استعمال حقوقه؛ ولا يسيء في استعمال الضوابط الشرعية في العلاقة الزوجية لمجرد رغبته في تركها والزواج بغيرها.
لم يقف الحد عند هذه الحماية للمرأة من سيطرة الرجل، بل إن الله تعالى أمر الرجلَ الـُمطلِّقَ أن يمتع المرأة، فالمتعة اسمٌ لمال يدفعه الرجل لمطلقته التي فارقها، بسبب إيحاشه إياها بفرقة لا يد لها فيها غالبًا، فقد قال تعالى جده: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } [البقرة: 241] ، وقال تعالى ذكره: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 28] ، وهذه المتعة يختلف مقدارها اختلافًا عرفيًا حسب الزمان والمكان والحال، ويبين لنا ذلك قوله جلَّ ذكره: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ } [البقرة: 236] ، وقوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] ، فهذه المتعة قد تكون هدية معتبرة أو مالًا مثمرًا أو غير ذلك، وذلك لتبقى العلاقة بعد الفراق قائمة على التواصل والاحترام لا التفاصل والعدوان والإجرام.
فإن كان الأمر كذلك فكيف يتجرأ الأزواج أن يتلاعبوا بالذمة المالية للمرأة؟ فانظر كيف ينكر الله على الأزواج الاحتيال لأخذ مال الزوجات، فيقول: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 20]، فإن أخذ شيء من ذلك الـمال بُهْتَان وَإِثْم مُبِين، والبُهْتَانُ هو: الكَذِبُ الذي يستعظمه الإنسان حتى يُبهت إذا سمعه، أي: يتحير منه لِعَظَمَتِهِ، ووجه البهتان هنا أنهم أخذوا مالًا ليس مالهم، ولا يحل لهم أخذه، فقد كذبوا كذبًا عظيمًا بلغ حد البهتان على استحلالهم له.
ولا ينبغي أن يفهم من الآية جواز الـمغالاة في الـمهور؛ لأمرين:
الأمر الأول: جواز أن يكون القنطار تَكَوَّن لهن من أمرٍ آخر، كالهدايا.
والثاني: لأن ذكر الأمر لا يدل على جواز فعله، كما قال النبي: «وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيل،ٌ فَهْوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا يُودَى، وَإِمَّا يُقَادُ» [1]، ولا يلزم من ذلك جواز القتل.
وهذا ردٌ على المرأة التي اعترضت عمر فيما رواه أبو يعلى عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: رَكِبَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ مِنْبَرَ رَسُولِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، مَا إِكْثَارُكُمْ فِي صُدُق النِّسَاءِ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ وأصحابه، وإنما الصدقات فِيمَا بَيْنَهُمْ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ فَمَا دُونَ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ الإِكْثَارُ فِي ذَلِكَ تَقْوًى عِنْدَ اللَّهِ أَوْ كَرَامَةً لَمْ تَسْبِقُوهُمْ إِلَيْهَا. فَلا أعرفَنَّ مَا زَادَ رَجُلٌ فِي صَدَاقِ امْرَأَةٍ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ فَاعْتَرَضَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، نَهَيْتَ النَّاسَ أَنْ يَزِيدُوا النِّسَاءَ صَدَاقَهُمْ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي القُرْآنِ؟ قَالَ: وَأَيُّ ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 20] قال: فقال: اللَّهُمَّ غَفْرًا، كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ. ثُمَّ رَجَعَ فَرَكِبَ المِنْبَرَ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تَزِيدُوا النِّسَاءَ فِي صَدَاقِهِنَّ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ مَالِهِ مَا أَحَبَّ. قَالَ أَبُو يَعْلَى: وَأَظُنُّهُ قَالَ: فَمَنْ طَابَتْ نَفْسُهُ فَلْيَفْعَلْ [2].
فذكر القنطار لا يعني الندب إلى إعطائه، بل ورد في السنة ما يدل على التيسير في المهور ومتعلقات الزواج، فعَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مَئُونَةً» [3]، وعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ڤ أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مِنْ يُمْنِ المَرْأَةِ أَنْ تَتَيَسَّرَ خِطْبَتُهَا، وَأَنْ يَتَيَسَّرَ صَدَاقُهَا وَأَنْ يَتَيَسَّرَ رَحِمُهَا». قَالَ عُرْوَةُ يَعْنِى يَتَيَسَّرَ رَحِمُهَا لِلْوِلاَدَةِ [4].
والآن لنعد للتأمل في الآية {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] هل يعني ذلك أن تحريم أخذ شيء من مالها ينبغي أن يكون مقيدًا بإرادة استبدال زوج أخرى مكان السابقة؟ لا بل يحرم أخذ شيء من مالها مطلقًا، ولكن القيد هنا لبيان بعض الصور، ولتصوير الواقع مع عموم الحكم.
وهنا تعلم التوفيق الذي أوتيه الحسن البصري عندما سأله رَجُلٌ فقال: إِنَّ عِنْدِي ابْنَةً لِي وَقَدْ خُطِبَتْ إِلَيَّ فَمَنْ أُزَوِّجُهَا؟ فأجابه الحسن: «زَوِّجْهَا مَنْ يَخَافُ اللَّهَ، فَإِنْ أَحَبَّهَا أَكْرَمَهَا، وَإِنْ أَبْغَضَهَا لَمْ يَظْلِمْهَا».
[1] البخاري (9 / 6).
[2] وجدته عند البيهقي في السنن الكبرى (7/233) وقال: منقطع، وقال ابن كثير عن بعض رواياته: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قَوِيٌّ.
[3] عشرة النساء للنسائي (1 / 197)، وجود إسناده العراقي.
[4] السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي (7 / 235)، وجوَّد إسناده العراقي في المغني عن حمل الأسفار (1 / 386).