مقتطفات

علم الاجتماع القرآني.. ما الأسس التي تحدد لنا الصنف الذي يمنع الإنسانية من حقوقها، ويحارب الإدارة الراشدة، ويحرص على تدمير البشرية باللغو في الرسالة الإلهية؟

أ.د/ عبد السلام المجيدي

بعد ذكر الحقوق الإنسانية العامة والخاصة يذكر الله تعالى في المحور الرابع من سورة النساء

تعريفا بالصنف القيادي الأول الذي يمنع الإنسانية من حقوقها، ويحارب الإدارة الراشدة، ويحرص على تدمير البشرية باللغو في الرسالة الإلهية (النساء:44-46)

آيات هذا القسم:

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (النساء:44-46).

حدد الله لنا الصنف القيادي الذي يتلاعب بحقوق الناس تحديدًا دقيقًا من خلال ذكر أهدافه وجنسه وصفاته، ويمكن أن نجمع هذه المعالم التي تشكل تفصيلًا مبينًا لهذا الصنف في الأسس الآتية، منها:

الأساس السادس:

يظهرون موالاة الإنسانية، ونصرة قضاياها، ويُبَصِّرُنا الله جل جلاله بذلك من خلال قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا } [النساء: 45]، فالكفاية به وليًا ونصيرًا تعني أن هذه البصائر التي يربيكم بها، إنما هي لحمايتكم، وحراستكم في أمنكم الشخصي والقومي، ويجب عليكم بذل المستطاع الشرعي والمادي في حماية أمنكم ثم ثقوا بعد في أن يكفيكم عما عداه ولاية ونصرة:

فلا تتوهموا أن طلبكم التحالف مع أعدائكم الحقيقيين سيجعلهم يشعرون بالرغبة في رد الجميل، أو إظهار صادق المحبة لكم، بل تولوا الله ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ﴾، وهذه الجملة المباركة تبين أن اتباع منهج الله تعالى ذكره في تحديد أعداء الأمة من أنصارها قد يوقع للوهلة الأولى في عداوة كثير من أهل الأرض لاتباعهم هذ الصنف المذكور في الآية السابقة واللاحقة؛ فلا يحزن الإنسان ولا يبأس بل يثق بالله ويتوكل على ولايته ونصرته جل في علاه.

كما أن قوله تعالى: ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ﴾ ينبه المسلمين الذين آل أمرهم إلى الدخول في تحالفاتٍ سياسيةٍ وعسكرية مع المحرفين بأن لا يظنوا أن تلك التحالفات والموالاة يمكن أن تفيدهم شيئًا، فأعداؤهم سينتهزون أقرب فرصة للغدر بهم، بالسلم أو بالحرب، فليكتفوا بولاية الله ونصرته.

والولي جمعه أَوْلِيَاءُ [1] مِنَ الوِلَايَةِ بِكَسْرِ الوَاوِ وَهِيَ النُّصْرَةُ أو المحبة، وَأَمَّا الوَلَايَةُ بِفَتْحِ الوَاوِ فَهِيَ تَوَلِّي الأَمْرِ، وكلاهما مشتقٌ من الولاء والتوالي من وَلِيَ، وهي كلمة تدل عَلَى قُرْبٍ، والتوالي: أن يحصل شيئان فصاعدًا حصولًا ليس بينهما ما ليس منهما، وهذا يدل على القرب الشديد الذي يصل إلى ما يشبه التلاصق، فيُقَالُ: تَبَاعَدَ بَعْدَ وَلْيٍ، والوَلْـيُ: القربُ والدنوُّ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: « كل مما يَليكَ »، أي مما يقاربك قربًا مباشرًا، وكُلُّ مَنْ وَلِيَ أَمْرَ آخَرَ فَهُوَ وَلِيُّهُ، فهو أقرب الناس إليه ليس بينهما غيرهما، وَفُلَانٌ أَوْلَى بِكَذَا، أَيْ أَحْرَى بِهِ وَأَجْدَرُ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي الشَّتْمِ: أَوْلَى لَكَ فتهديد وَوَعِيدٌ، ومنه قولهم:

فَأَوْلَـى ثُمَّ أَوْلَـى ثُمَّ أَوْلَى

 وَهَـلْ لِلدَّرِّ يُحْلَبُ مِـنْ مَرَدِّ

ولعل ذلك بسبب قرب تنفيذ المهدد لوعده، ولذا قال الأَصْمَعِيُّ: مَعْنَاهُ قَارَبَهُ مَا يُهْلِكُهُ، أَيْ نَزَلَ بِهِ.

والمَوْلَى: المُعْتِقُ وَالمُعْتَقُ، وَالصَّاحِبُ، وَالحَلِيفُ، وَابْنُ العَمِّ، وَالنَّاصِرُ، وَالجَارُ، كُلُّ هَؤُلَاءِ مِنَ الوَلْيِ وَهُوَ القُرْبُ، فالولي اسم يدل على القرب والمحبة، والولاية بمعنى القيام على الشيء ورعايته، ومن ذلك الوالي، فهو القائم المتصرف على غيره، فالله تعالى ذكره يتولاكم ويقوم على شؤونكم ورعايتكم، وهو الذي ينصركم، فصارت الوِلاية والموالاة والولاء تدل على شدة التلاصق وعدم الانفكاك الذي يؤدي إلى العزة والشعور بالقوة، كما تدل على قوة القرب من حيث المكان ومن حيث النسبة ومن حيث الدين ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد، والولي والمولى يستعملان في ذلك كل واحد منهما يقال في معنى الفاعل أي الموالـِي، وفي معنى المفعول أي الموالـَى، فقوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257] أي يتولى أمرهم حكمًا ومحبة ونصرة فهو أقرب إليهم مما سواه، وقولهم: تولى إذا عَدَّى بنفسه اقتضى معنى الولاية وحصوله في أقرب المواضع منه، ويقال وليت سمعي كذا، ووليت عيني كذا، ووليت وجهي كذا أقبلت به عليه، وقوله جل ذكره: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [البقرة: 144] أي فلنحكمن عليك بتولي قبلة ترضاها أي بالإقبال عليها، ومنه {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] أي ومن يجعلهم أقرب الناس إليه أو يوافقهم إلا في أعشار من مائة، فهذا يعني أنهم مثل روحه، وذاك يعني أنهم يتصرفون فيه كما شاءوا، فهي أعلى درجات التحالف؛ إذ صارت أقرب إلى الامتزاج منها إلى التحالف، ولذا فإن قوله جل ذكره: ﴿فهو منهم﴾ إما أن يكون حكمًا ظاهرًا حيث تراه معهم في كل شؤونهم ينصرهم فيما يذهبون إليه من القضايا الإنسانية وفق رؤيتهم المعوجة، وإما أن يكون قوله ﴿فهو منهم﴾ حُكْمًا ظاهرًا وباطنًا أي لا يكتفي بنصرهم في الظاهر بل يوافقهم في الباطن أيضًا.

وجمع الله في الذكر في هذه الآية بين الولي والنصير لأنك قد تجد الولي المحب لكنك لا تجد عنده القدرة على النصر، وقد تجد النصير دون أن يكون وليًا محبًا، فجمع الله لنفسه بين الأمرين تحببًا لكم، وبيانًا للمجد الذي تجدونه منه جل جلاله.

والحظ كيف يحفز القرآن الأنفاس، ويحشد العواطف، ويشعل المشاعر فيكرر الله قوله: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ﴾ مع إظهار الاسم دون إضماره في قوله: ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ﴾ (النساء: 45) .

فالتَّكْرَار والإظهار في مقام الإضمار فِي مِثْلِ هَذَا المَقَامِ أَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي القَلْبِ وَأَكْثَرَ مُبَالَغَةً، وهذا التكرار يناسب تحريك العواطف الجامدة الباردة بعد تقرير الحقيقة العقلية الواضحة وهي: معرفة العدو من الصديق من المصدر الإلهي الذي يحيط بالغيب والشهادة لا من الأفهام القاصرة المخدوعة.

ولذا يقول الطبري رضي الله عنه في تفسيرها عبارة مسددة جمع فيها بين حماية الله للأمة الإسلامية في أمنها القومي، وحمايته لها في نظامها الذي شكله الإسلام: ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ﴾، يقول: وحسبكم بالله ناصرًا لكم على أعدائكم وأعداء دينكم، وعلى من بغاكم الغوائل، وبغى دينكم العَوَج» [2]، وهذا يعني حرص هذه الفئة المشترية الضلالة على إدخال العوج في الإسلام، ومحاولة تغييره، والحرص على تعويج أنظمته.

للمزيد طالع مفصل تفسير سورة النساء


[1] الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (6/ 2528)، مقاييس اللغة (6/ 141)، المفردات في غريب القرآن ت كيلاني (ص: 533).

[2] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 430).