كيف تكون السنة النبوية من أعظم أسباب مواجهة الإشاعات؟
1 يناير، 2024
794
{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]
السنة النبوية من أعظم أسباب مواجهة الإشاعات
في سياق الكلام عن استراتيجية أخذ الحذر ومبادئها يذكر القرآن بعض القوانين ومنها أن أهم الحلول لمواجهة فوضى الإشاعات المخلخلة للسلام العام الرجوع إلى الميراث النبوي في التعامل مع القضايا الأمنية.
وذلك يعني خدمة السنة النبوية الخدمة المثلى سندًا ومتنًا لاستخراج كنوزها وذخائرها، وتكوين فئة أولي الأمر المستنبطين، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾؛ وهذا يقتضي تشكيل لجان الخبراء في الـمجالات الـمختلفة، ليمدوا المستنبطين بما يعينهم على التكييف المناسب للحوادث النازلة، فيصير المستنبطون أهم مركزٍ في مفهوم ﴿أُولِي الْأَمْرِ﴾ ويمدون الأمة بالرأي الصحيح في القضايا الاستراتيجية، اعتمادًا على فهم النص الشرعي، ودراسة للميراث النبوي، ووضعًا للوصف الدقيق للواقع:
ولماذا ذكر الرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم دون أن يذكر اسم الله أو أن يذكر القرآن هنا؟
لأن الفهم الصافي والتطبيق العملي للقرآن لا يجده المرء إلا في الهدي النبوي، وبالتطبيق النبوي تضبط إيقاعات الفهم للقرآن المجيد، وهنا تدرك لماذا هذه الحرب الشعواء على السنة النبوية.
وقد يحتاج المستنبطون إلى لجان من الخبراء ليتمكنوا من تقديم الرأي الـمناسب في الحادثة؛ وبناء على ذلك يتم اتخاذ القرارات المناسبة، وبذا تؤدى الأمانة إلى أهلها، فترد كل قضايا الأمن أو الخوف إلى كيفية التعامل النبوي معها من خلال السنة والسيرة على صاحبها الصلاة والسلام.
وقد جعل الله تعالى ذكره طريقة التعامل مع قضايا الأمن والخوف خاصًا بأولي الأمر الذين يطلبون من لجان الخبراء المستنبطين أن يقدموا الرؤية الصحيحة للتعامل مع تلك القضايا، فيمدون أولي الأمر بالرأي المناسب في النازلة المعينة، وفي مقدمتهم العلماء القادرون على الاستنباط، ثم يقوم المتخصصون باستنباط الحلول المناسبة وتحويلها مع الخبراء إلى قرارات عملية، والآية تبصرنا إلى صفتين عظيمتين يجب أن تشترطا في أولي الأمر هما: العقل الذي يحزم في الأمور، والرجوع إلى الدين في جميع المسائل وخاصة مسائل الأمن والخوف، ومن المؤسف أن الدول لا تعرض مسائل الأمن والخوف على المختصين فيها، فعن ابن جريج: «وإلى أولي الأمر منهم»، الفقه في الدين والعقل، وقال ابن زيد عنهم: الولاة الذين يَلُون في الحرب عليهم الذين يتفكرون فينظرون لما جاءهم من الخبر: أصدق، أم كذب؟ أباطل فيبطلونه، أو حق فيحقونه؟ [1].
وهذه الآية لها علاقة بما سبق في قوله تعالى ذكره {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82]، فلو ظهر لأحدهم معنى في الآية وهو ليس من أهل العلم، فلا ينشر هذا المعنى أو تلك المعلومة حتى يعيده إلى الرسول، وإلى أولي الأمر منهم، ومثال ذلك ما نسمعه هذه الأيام من أن القرآن يفسر بالآرامية أو السريانية، ويقول العابث الذي يروج هذه الفكرة التي يظنها عبقرية ويتعجب كيف لم تخطر على بال من قبله: معنى كلمة ﴿طه﴾ يا رجل باللغة الآرامية أو السريانية، وهذا الذي يقوله هذا العابث نجده قولًا مهجورًا معروفًا في التفسير لكنهم أهملوه لأنه يصادم الأصول، فالقرآن نزل بلسان عربي مبين، فكيف تجعله أنت بلسان أعجمي مبين؟.
والاستنباط ينبغي أن يكون صادرًا من أهله في محله، وليس صادرًا من أهله في غير محله، أو صادرًا من غير أهله في محله، أو في غير محله.
قَرِيبٌ ثَرَاهُ، ما يَنَالُ عَدُوُّه
لَهُ نَبَطًا، آبِي الهَوَانِ قَطُوبُ [2]
وعرفه النووي بأنه: استخراج ما خفي المرادُ به، من اللفظ، وقال الجرجاني (ت 816 هـ): استخراج المعاني من النصوص، بِفَرْطِ الذهن، وقوة القريحة [3].
كما تبصرنا هذه الآية بأن مجالات الأمن أو الخوف في الأمة تشمل ما يتعلق بأحوال القيادة النبوية؛ إذ سياق الآيات في الكلام عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ما يؤكد أهمية السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، ومما يدل على ذلك حديث عُمَر بْن الخَطَّابِ قَالَ لَمَّا اعْتَزَلَ نَبِىُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ – قَالَ – دَخَلْتُ المَسْجِدَ فَإِذَا النَّاسُ يَنْكُتُونَ بِالحَصَى وَيَقُولُونَ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرْنَ بِالحِجَابِ فَقَالَ عُمَرُ فَقُلْتُ لأَعْلَمَنَّ ذَلِكَ اليَوْمَ قَالَ فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ يَا بِنْتَ أَبِى بَكْرٍ أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ مَا لِي وَمَا لَكَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ عَلَيْكَ بِعَيْبَتِكَ. قَالَ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ فَقُلْتُ لَهَا يَا حَفْصَةُ أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يُحِبُّكِ. وَلَوْلاَ أَنَا لَطَلَّقَكِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَبَكَتْ أَشَدَّ البُكَاءِ فَقُلْتُ لَهَا أَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ هُوَ فِي خِزَانَتِهِ فِي المَشْرُبَةِ. فَدَخَلْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَبَاحٍ غُلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدًا عَلَى أُسْكُفَّةِ المَشْرُبَةِ مُدَلٍّ رِجْلَيْهِ عَلَى نَقِيرٍ مِنْ خَشَبٍ وَهُوَ جِذْعٌ يَرْقَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَنْحَدِرُ فَنَادَيْتُ يَا رَبَاحُ اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَنَظَرَ رَبَاحٌ إِلَى الغُرْفَةِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَىَّ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ قُلْتُ يَا رَبَاحُ اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَنَظَرَ رَبَاحٌ إِلَى الغُرْفَةِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَىَّ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ رَفَعْتُ صَوْتِي فَقُلْتُ يَا رَبَاحُ اسْتَأْذِنْ لِى عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنِّى أَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أَنِّى جِئْتُ مِنْ أَجْلِ حَفْصَةَ وَاللَّهِ لَئِنْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِضَرْبِ عُنُقِهَا لأَضْرِبَنَّ عُنُقَهَا. وَرَفَعْتُ صَوْتِي فَأَوْمَأَ إِلَىَّ أَنِ ارْقَهْ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى حَصِيرٍ فَجَلَسْتُ فَأَدْنَى عَلَيْهِ إِزَارَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَإِذَا الحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَنَظَرْتُ بِبَصَرِى فِي خِزَانَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ وَمِثْلِهَا قَرَظًا فِي نَاحِيَةِ الغُرْفَةِ وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ – قَالَ – فَابْتَدَرَتْ عَيْنَاىَ قَالَ «مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ».
قُلْتُ يَا نبي اللَّهِ وَمَا لِي لاَ أَبْكِي وَهَذَا الحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لاَ أَرَى فِيهَا إِلاَّ مَا أَرَى وَذَاكَ قَيْصَرُ وَكِسْرَى فِي الثِّمَارِ وَالأَنْهَارِ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَفْوَتُهُ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ.
فَقَالَ «يَا ابْنَ الخَطَّابِ أَلاَ تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الآخِرَةُ وَلَهُمُ الدُّنْيَا». قُلْتُ بَلَى – قَالَ – وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ حِينَ دَخَلْتُ وَأَنَا أَرَى فِي وَجْهِهِ الغَضَبَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ فَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَكَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَأَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَالمُؤْمِنُونَ مَعَكَ وَقَلَّمَا تَكَلَّمْتُ وَأَحْمَدُ اللَّهَ بِكَلاَمٍ إِلاَّ رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِى أَقُولُ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ آيَةُ التَّخْيِيرِ {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5] {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] وَكَانَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِى بَكْرٍ وَحَفْصَةُ تَظَاهَرَانِ عَلَى سَائِرِ نِسَاءِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَطَلَّقْتَهُنَّ قَالَ «لاَ». قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي دَخَلْتُ المَسْجِدَ وَالمُسْلِمُونَ يَنْكُتُونَ بِالحَصَى يَقُولُونَ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ أَفَأَنْزِلُ فَأُخْبِرَهُمْ أَنَّكَ لَمْ تُطَلِّقْهُنَّ قَالَ «نَعَمْ إِنْ شِئْتَ». فَلَمْ أَزَلْ أُحَدِّثُهُ حَتَّى تَحَسَّرَ الغَضَبُ عَنْ وَجْهِهِ وَحَتَّى كَشَرَ فَضَحِكَ وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ ثَغْرًا ثُمَّ نَزَلَ نَبِىُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَزَلْتُ فَنَزَلْتُ أَتَشَبَّثُ بِالجِذْعِ وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّمَا يَمْشِى عَلَى الأَرْضِ مَا يَمَسُّهُ بِيَدِهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كُنْتَ فِي الغُرْفَةِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ. قَالَ «إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ». فَقُمْتُ عَلَى بَابِ المَسْجِدِ فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ. وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] فَكُنْتُ أَنَا اسْتَنْبَطْتُ ذَلِكَ الأَمْرَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ آيَةَ التَّخْيِيرِ [4].
[1] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 573).
[2] انظر: تفسير الطبري ت شاكر (8/ 571)، مقاييس اللغة (5/ 381)، تهذيب اللغة (13/ 249)، وفي تهذيب اللغة (13/ 250) يقال: حَفَر فأثلجَ إِذا بلغ الطين، فَإِذا بلغ المَاء قيل: أنبط، فَإِذا كَثُر الماءُ قيل: أماهَ وأمْهَى، فَإِذا بلغ الرّملَ قيل: أسْهب، يُقَال فلانٌ لَا يُنالُ نَبَطُه، إِذا وُصف بالعِزّ والمَنَعة حَتَّى لَا يجد عدوّه سَبِيلا إِلَى أَن يَتهَضّمه فِيمَا تَحت يَده، ويُقَال للرجل: إِذا كَانَ يَعِدُ وَلَا يُنْجِزُ: فلانٌ قريبُ الثّرَى، بعيدُ النَّبَط، وقال شاكر في بيان البيت في حاشيته على الطبري: «وقوله: «قريب الثرى»، يريدون كرمه وخيره. و«الثرى»: التراب الندي، كأنه خصيب الجناب. وقوله: «ما ينال عدوه له نبطًا»، أي لا يرد ماءه عدو، من عزه ومنعته، / إذا حمى أرضًا رهب عدوه بأسه.«آبى الهوان» لا يقيم على ذل. و«قطوب»: عبوس عند الشر».
[3] تهذيب الأسماء واللغات4/158، التعريفات ص22
[4] صحيح مسلم (4 / 188) برقم 1479.