كيف نوظف الاستثناء في التفسير القرآني؟
4 يناير، 2024
467
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83]
توظيف الاستثناء في التفسير القرآني
جمال الكلمة القرآنية (25)
استثمار البناء التركيبي يظهر الإعجاز المدهش للقرآن، ومن ذلك الاستثناء في قوله ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾[1] يدلك على خطورة الخطة الشيطانية التي يمارسها لإضلال العالم، وقد جاء هذا الاستثناء متأخرًا، فبصَّر المفسرين بمعانٍ متعددةٍ له لا يمكن أن تظهر إلا إذا وضع الاستثناء في ذلك الموضع؛ إذ يمكن أن يرجع إلى عددٍ من الكلمات قبله:
فالـمعنى الأول: الاستثناء يرجع إلى قوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء: 83] أي إِلَّا قَلِيلًا، فَأَخْرَجَ الله تَعَالَى الأفراد المؤمنين الراشدين الذين يعيشون في المجتمع من أن يتبعوا خطوات الشيطان فيذيعوا ما يتعلق بالأمن أو الخوف، وبين أن عقولهم أكبر من أن يتكلموا فيما لا يعلمون أو فيما لا يفهمون أو فيما قد يسبب المشاكل لهم أو لمجتمعهم.
والمعنى الثاني: الِاسْتِثْنَاءُ عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] أي إِلَّا قَلِيلًا.. والكلام واضحٌ وصحيح ويبصر المسلمين بأنه ليس كل عالمٍ أو خبيرٍ مستنبط لا بد أن يستنبط في كل شيء بل قد يغفل في مسألة من المسائل ويستنبط في أخرى.. وهذا الفهم الرائع للآية يقتضي أن يحاول المسلمون إعمال الفكر الجماعي، وألا يقتصروا على الأفراد في الاستنباط مهما بلغ إنسان من سابقة العلم أو الرسوخ في البلاء الدعوي.
والمعنى الثالث: الاستثناء مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} إلا قليلًا، والفضل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، والرحمة القرآن، فلفظ الفضل والرحمة عامان ويراد بهما هذان الأمران المخصوصان، والمعنى: ولولا بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وبصائر القرآن المجيد إلا قليلًا ممن منَّ الله عليهم بالعقل الصادق، والبقاء على الفطرة السليمة فثبتوا على الحنيفية الإبراهيمية قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم مثل زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، وقس بن ساعدة وبقايا من أهل الكتاب، وذكر الله تعالى ذلك في الحديث القدسي في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا: كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلاَلٌ وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلاَّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ» [2]، فالفضل هنا هو التشريع العظيم الذي ينقذ المسلمين من الضلال، ويحمي جماعتهم من اتخاذ قرارات الوبال والخبال.
الـمعنى الرابع: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} فالاستثناء يرجع إلى أقرب مذكور، وهو المفهوم من قوله ﴿ لَاتَّبَعْتُمُ﴾ فإما أن يراد به الاستثناء من الأَتْباع وإما أن يُراد به الاستثناء من الاتِّباع أي من الأمور المتبعة، ويكون المعنى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان جميعًا إلا قليلًا منكم فإنهم لا يتبعونه لما وضع الله في قلوبهم من النور، ولمجاهدتهم أنفسهم، فلا ينشرون الشائعات المتعلقة بمجالي الأمن والخوف، فهذا المعنى الرابع، وهو يُبَصِّرُنا بقلة الذين لا يتبعون الشيطان، فلا يغتر المرء بكثرة من حوله ممن ينتسب إلى الإيمان.
والمعنى الخامس: أن يكون الاستثناء من الاتباع أي من الأمور المتَّبعة ويكون المعنى {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} في أموركم كلها {إِلَّا قَلِيلًا} من هذه الأمور تقاومون فيها الشيطان، وهذا المعنى يُبَصِّرُنا بقدرة الشيطان على إغواء المؤمنين فضلًا عن غيرهم في كثيرٍ من الأمور الحيوية، فلا يغتر المرء بقدرته على مجاهدة الشيطان مثلًا في أداء الصلوات المفروضة فإنه ربما أغواه في إقامتها، ولا يغتر بمحافظته على الصيام والزكاة فإنه ربما أغواه فيما يتعلق بمجالي الأمن والخوف.
ولا يعني هذا أن الله يعطل الكيد الشيطاني؛ إذ ما زال الشيطان يُعمِل أدواته البشرية في إضلالكم لكن الله يفضح لكم كيده، ويكشف لكم أدواته، ويقذف في قلوبكم من نور الإيمان.. وذلك ينبهكم إلى الكيد الشيطاني، فتأخذوا حذركم من اتباعه.
ثم عد ثانية إلى السياق الذي وردت فيه هذه الآيات المباركات وعمم الاستثناء ليدخل فيه جميعًا لتجد من المعاني المنصبة عليك:
ولولا فَضْل اللَّه عليكم بحصول النصر، ورحمته بتقوية عزائمكم لتتمكنوا من عدوكم في بعض دول الأيام لكنتم استجبتم للمبطئين الذين ذكرهم الله في قوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72]، ولكنتم استجبتم للخائفين الذين ذكرهم في قوله: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء: 77]، ولكنتم استجبتم للذين يبيتون غير الذي يقول النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنتم من الذين يذيعون الأمر من الخوف أو الأمن مما يزلزل المسلمين.. لولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم اتبعتم الشيطان، وأطعتم أتباعه، وأنتم ترون كثرتهم وقلتكم، وتمكنهم وضعفكم، وتقلبهم في البلاد وخوفكم.. لكن الله مَنَّ عليكم بفضله ورحمته، فثبتكم على دينكم الذي علمتم أنه لا يجب أن تكون له الدولة والصولة ليكون حقًا.. ولولا فضل الله عليكم ورحمته بالثبيت لكم أحيانًا وبظفركم عليكم أحيانًا أخرى لاتبعتم الشيطان إلا قليلًا ممن استنارت قلوبهم ابتداء بمعرفة الحق من غير نظر إلى تمكن المؤمنين أو الكافرين [3].
ولولا فضل الله بزيادة إمدادكم بالثبات، ورحمته بالإنعام عليكم بالاستقامة على الحق لاتبعتم الشيطان إلا قليلًا كالراشدين الأربعة، فهنا فسرنا الفضل والرحمة بما هو الزيادة على أصل الإنعام بالهداية، وبذا نجمع بين هذه الآية التي فيها استثناء وبين قوله تَعَالَى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } [النور: 21]، أي بفضل الله ورحمته في أصل الإيمان، وهنا ولولا فضل الله عليكم ورحمته بالزيادة على أصل الإيمان، فهنا نستثني لأن الزيادة على أصل الإيمان يمد الله به من يشاء، وأما أصل الإيمان فهو أعطاكموه، أي أنه بعث لكم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاكم القرآن.
[1] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 577)، وبين شاكر أن قوله «يدي» (بضم الياء وكسر الدال، والياء المشددة) أو (بفتح الياء وكسر الدال وتشديد الياء)، جمع «يد» الأول جمعها على وزن «فعول»، مثل فلس وفلوس، والثاني جمعها على وزن«فعيل» مثل عبد وعبيد. كأنه قال: كثير أيدي النوال.
[2] صحيح مسلم ( 8 / 158 )، برقم 2865.
[3] ونحو هذا المعنى قرره أبو مسلم الأصفهاني، ونقله عن الرازي في تفسيره معجبًا به (10/ 156)، وأنت ترى أنني ملت إلى الجمع بين المعاني، ونقل الطبري -r- معنى استبعده هو أن الاستثناء ليس على ظاهره، فكل من لم يتبع الشيطان فإنما اجتنبه بفضل الله ورحمته، والاستثناء دليل على الملك والقوة والإحاطة، وأنه لولا فضل الله عليهم ورحمته لم ينج أحدٌ من الضلالة، واستشهدوا على ذلك بقول الطرِمّاح بن حكيم، في مدح يزيد بن المهلب:
أَشَمُّ كَثِيرُ يُدِيِّ النَّوَالِ
قَلِيلُ المَثَالِبِ وَالقَادِحَةْ
قالوا: فظاهر هذا القول وصف الممدوح بأن فيه المثالب والمعايب، ومعلوم أن معناه أنه لا مثالب فيه ولا معايب. لأن من وصف رجلًا بأنّ فيه معايب، وإن وصف الذي فيه من المعايب بالقلة، فإنما ذمَّه ولم يمدحه. ولكن ذلك على ما وصفنا من نفي جميع المعايب عنه. قالوا: فكذلك قوله: «لاتبعتم الشيطان إلا قليلًا»، إنما معناه: لاتبعتم جميعكم الشيطان وربط محمد رشيد رضا في تفسير المنار (5/ 246) بين هذا المعنى وبين قوله تعالى:﴿ﯕ ﯖ ﯗ * ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ﴾ (الأعلى: 6، 7) قال: « فَالِاسْتِثْنَاءُ دَلِيلُ الإِحَاطَةِ، أَقُولُ: أَوْ كَمَا يَقُولُ الأُصُولِيُّونَ: مِعْيَارُ العُمُومِ، أَيْ: فَهُوَ لِتَأْكِيدِ مَا قَبْلَهُ.
ولكن الطبري عقب على هذا الرأي بعد نقله بقول: «وغير جائز أن نحمل معاني كتاب الله على غير الأغلب المفهوم بالظاهر من الخطاب في كلام العرب»