لعل الناظر إلى نظام الإرث في الإسلام يعتقد أن الله تعالى تعبدنا بأحكام الإرث، ولا توجد حكم وحثيات ومقاصد بني عليها هذا النظام، لكن المتدبر للقرآن الكريم يجد أن الله تعالى قد بنى نظام الإرث بشكل مذهل في لفظه المعبر عنه وفي مقاصده المترتبة عليه، فبداية من قوله تعالى {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7] إلى قوله تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 13، 14] وكذلك الآيات السابقة للآية السابعة من سورة النساء ثم قوله تعالى في ختام السورة {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176] يجد أن نظام الإرث الإسلامي قائمٌ على ستة مقاصد:
بث الجنس الإنساني، والعدالة، والتكافل، والتكامل، والحقوق والواجبات، والإعانة للوارث حسب الـمسؤوليات القائمة والـمستقبلية:
أراد الله -عزَّ جاره- أن يُهْديَ للبشرية نظام الإرث الذي يمثل الرحمة الحقيقية بالإنسانية ليبقى لها الاستقرار والبث والانتشار، فينتقل من ذوي القرابات بالرحم أو الولاء لتتكون الأسر المتعددة التي تكون المجتمع، ويقوم على العدل الذي يعني إعطاء كل ذي حقٍّ حقه،
ومن أكبر وأبشع أنواع الاختراق الفكري في العصر الحديث أن يأتي من يحاول إبعاد كلمة العدل، ويجعل موضعها كلمة أخرى..
ما هي هذه الكلمة الأخرى؟ المساواة..
إن الإرث مثل سائر الأمور الحيوية والحقوقية يقوم على العدل، أما المساواة فقد تكون صورةً من صور العدل في موضعها، وقد تكون صورةً من صور الظلم.. واضرب لهم مثلًا بموظف يعمل أربعة عشر ساعة أو عشر ساعات.. هل تصر على مساواته بموظفٍ يعمل ساعةً واحدةً فقط حال كون الإنتاج من كلٍ منهما مختلفًا حيث ينتج كلٌّ منهما حسب ساعات عمله؟ فكيف يعقل بأن يأخذ الابن في الإرث ما تأخذه أخته مع أنه ينفق عليها وعلى أمه وعلى زوجته.. فالأساس الثاني لتقسيم الإرث بعد القرابة: العدل، وحتى يتحقق ذلك فلا بد من أصلٍ واضحٍ يعتمد عليه، فجعل الله تعالى ذلك الأصل هو القرابة.
ثم تجد أن ثالث الأسس بعد العدل التكامل بين الجنسين في الحقوق، ورابع الأسس: الحقوق والواجبات التي كلف بها كل من الجنسين، فالحياة قائمة على التعاون وليس على التنازع، وعلى التكافل والتآزر البشري، وليس على شريعة الغاب والقوة، وهذا الأساس الخامس، وسادسها: المسؤوليات والتبعات القائمة والمستقبلية التي سيتحملها كل منهم في القيام على أسرته الصغيرة والكبيرة،
وقد وضع المسلمون لذلك قاعدة فائقة استنبطوها من فقه المواريث وفقه المعاملات القرآني، وهي قاعدة الغنم بالغرم، وهذا عدل كامل، ولذا جعلت الشريعة على القرابة (العاقلة) حق الإعالة، والتضامن في الديات والنوائب، وبذا ينتظم موضوع التقابل العادل والمحسن في الحقوق والواجبات، فكان هذا القسم لنصرة الـمضطهدين في هذا الـموضوع.
ومن أمثلة هذه القاعدة: رجل له زوجة وأولاد وأم وأخوات؛ فيجب أن ينفق على الجميع، فليس من العدل أن يكون نصيبه في الـميراث أقل؛ لأنه غارم، وكذلك لو نظرنا للأم فسنلاحظ أن نصيبها في الـميراث أقل من نصيب الولد؛ لأنها مُنْفَقٌ عليها.
فأنت ترى أن أول من يقوم بإعانة الإنسان فرعه، أو أصله، ثم بقية أقاربه، فإن لم يكفوا، أو لم يقوموا بما يجب عليهم، وجب على جماعة الـمسلمين التآزر والتعاطف؛ فهم كالجسد الواحد، ثم إن الدولة يجب عليها القيام بالبقية، بما يؤدي إلى سعادة الإنسان، ورفعته، وكرامته، كما قال صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَوْلَى بِالـمؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنَ الـمؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا، فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا، فَلِوَرَثَتِهِ»[1]، وفي رواية: «وَمَنْ تَرَكَ كَلًا، فَإِلَيْنَا»، وفي رواية: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلاَّ وَأَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا، فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا، أَوْ ضَيَاعًا، فَلْيَأْتِنِي، فَأَنَا مَوْلاَهُ»[2].
وهذه الطريقة في توزيع الثروة تهدف إلى استيعاب جميع الحالات المحتاجة إلى التكافل، فإذا لم تكفِ هذه الخطوة يأتي دور الدولة المسلمة لتتولى عبء مسؤولية الرعاية التامة للعجزة أو الفقراء أو أصحاب البطالة الحقيقية، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا، أَوْ ضَيَاعًا، فَلْيَأْتِنِي، فَأَنَا مَوْلاَهُ».
فأين الذين يتعالمون بدون علم ليصدروا الأحكام الخاطئة عن نظام الإرث الإسلامي الذي يتصف بالمقاصد الستة السابقة حتى يتأملوا إحكام البناء العظيم لهذه المنظومة التشريعية الحكيمة!
[1] صحيح البخاري ـ ترقيم فتح الباري (3/ 128) برقم 2298.
[2] صحيح البخاري ـ ترقيم فتح الباري (3/ 128) برقم 2398، 2399.