أسرار التعبير القرآني (10)… كيف تأخذ البلاغة القرآنية أنفاسك في قوله تعالى {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} [النساء: 73]؟
23 أكتوبر، 2023
547
يخبرك القرآن عن المنافقين والمخذلين فيقول:
﴿وَلَئِن أَصابَكُم فَضلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقولَنَّ كَأَن لَم تَكُن بَينَكُم وَبَينَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيتَني كُنتُ مَعَهُم فَأَفوزَ فَوزًا عَظيمًا﴾ [النساء: ٧٣] ويبين أن من صفاتهم نسيانهم لكل صلة إيمانية أو محبة رحمية، أو وشيجة قربى، أو إحسان يد عندما تحدث الأحداث الفاصلة، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} [النساء: 73]:
وتعال إلى البلاغة القرآنية حيث تأخذ أنفاسك عندما ترتقي عرشًا لا يمكن للكلام البشري الوصول إليه؛
فجملة {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } [النساء: 73] جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ القَوْلِ وَمَقُولِهِ أي بين قوله ﴿لَيَقُولَنَّ﴾ وقوله حكاية عنهم {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 73]
فكلمة مودة جاءت نكرة منفية في سياق التشبيه؛ فإن كان مؤمنًا أصاب قلبه مرض فاحذروا منه؛ إذ يتكلم بحسد ولؤم بخلاف المؤمنين الذين هم إِخْوَةٌ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وهم جسد واحد، يحب أحدهم لأخيه ما يحبه لنفسه، ويد واحدة على من سواهم، ويحتمل أن يكون القائل مؤمنًا ويشعر بالندم لأنه بطأ فيقول:
يا ليتني كنت معهم، وإن كان منافقًا فهو لا يذكر أي إحسانٍ أنعم المجتمع المسلم به عليه، وهذا يجعلنا نقول:
إن الآيات وردت في المؤمنين كما هي في المنافقين، وانظر إلى أهل البدع الكبرى كيف يعيشون بين المؤمنين، فيأكلون خيراتهم، ويجدون من رفقهم وإحسانهم حتى إذا علا وارتقى المفسدون على المؤمنين نسي أولئك كل مودةٍ كانت بينهم وبين المؤمنين،
والمودة إما أن تكون حقيقية إن صدرت هذه المقولة من ضعفة المؤمنين، وإما أن تكون صورية إن كانت المقولة صادرة من المنافقين..
وبالقدر الذي تدل فيه هذه الجملة على تحذير المؤمنين من هذا الصنف المبطئ الذي يعمل ضد أمنهم القومي،
ويحاول أن يربك حساباتهم الشرعية والواقعية إلا أن الأسلوب الذي جاء فيه هذا التحذير مثيرٌ جدًا من الناحية البلاغية؛
إذ هذه الجملة {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} [النساء: 73] تستدر كل عطف، وتحمل كل عتاب لمن أصاب قلبه مرض، فاتصف بصفات المنافقين دون أن يشعر، وصار من المبطئين الـمـُـبَطِّئين، ثم عمل الحسد في نفسه عمله لما رأى انتصار المؤمنين فقام يقول:
يا ليتني كنت معهم.. فيذكره الله بالمودة السالفة، والمحبة السابقة حيث كان يبادل إخوانه الابتسامات الحانية، ويظهر لهم المحبة الخالصة..
وتعجب من هذه العبارة التي تحمل التحذير، وتتضمن في الوقت ذاته أجمل التأثير عسى أن يتأثر من زلت قدمه من المؤمنين فوقع في هذه الخصلة من خصال الذين في قلوبهم مرض والمنافقين.
وهناك بعدٌ بلاغي ثالث في كلمة ﴿مَوَدَّةٌ﴾ هنا، فهو إنما ذكرها لأن الذين يقولون هذا القول من مرضى القلوب ومن المنافقين كانوا يبالغون في إظهار الود والشفقة والنصيحة للمؤمنين ، وهذا يعني مزيدًا من التحذير الشديد من أفعالهم، وعدم الاغترار بنصحهم وإظهار مودتهم.
وفي كلمة ﴿يكن﴾ من قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} [النساء: 73] قراءتان:
الأولى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ ﴿كَأَنْ لَمْ تَكُنْ﴾ بِالتَّاءِ لتأنيث مودة، وقد جاء مثل هذه القراءة في المجمع عليه قوله تعالى {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس: 57].
وَالبَاقُونَ بِاليَاءِ لأن المودة مؤنث غير حقيقي مع وجود فاصل بين الفعل والفاعل، ومما يشبه ذلك من المجمع عليه قوله تعالى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّ} [البقرة: 275].
المجيدي
مفصل تفسير سورة النساء