“إلقاء السلم” مصطلحٌ قرآنيٌّ يعبقُ بِالرحمةِ ويُشرقُ بِالسلامِ
2 يوليو، 2024
224
نقف بإجلال أمام القرآن وهو يبين لنا عظمة السمو الإسلامي في التعامل مع العالم، ومن ذلك إرساء المصطلحات الحاكمة والمحكمة ومنها:
(إلقاء السلم) فهو مصطلح قرآني مبتكر يدل على
مقاصد الشريعة في إشاعة السلام في الأرض، وتعريف الناس بجمال الإسلام، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله تعالى ذكره {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] ويتضمن هذا المصطلح حرمةَ الإيذاء اللفظي، فضلًا عن الجسدي لمن ألقى السلام سواء أكان مسلمًا أم مسالمًا أم مستسلمًا.
☼☼☼☼
(إلقاء السلم) مصطلح مدهشٌ أخاذ من المصطلحات القرآنية، وهو يعني:
رمي السلم إلى الطرف الآخر.. فتأمل هذه الصورة التي تسلب التفكير في تحقيق أهدافها: كأن السلم شيءٌ ماديٌّ محسوسٌ يحتفظ به هذا الإنسان حتى إذا قابل المسلم بادر فقذفه إليه ليبين له محبته للسلام ورغبته في كف الأذى، وطلبه إقامة الصلح.. فما السلم؟
إما أن يراد به علامة الإسلام ليدل صاحبها على أنه مسلم، وإما أن يراد به علامة السلام، وطلب الاستسلام حتى لو بقي على دينه. وعندها يحرم على المقاتل المسلم أن يمسه بأذى.
☼☼☼☼
نعم! يحرم أن يكون الجهاد أو استراتيجية أخذ الحذر مبررًا ليبطش المجاهدون دون تبينٍ أو تأنٍّ.. يحرم أن تكون ستارًا ليفعلوا ما يشاؤون دون محاسبة، بل ينبغي أن يعلموا أن رفع درجاتهم وعلو منزلتهم لا يغني عنهم فتيلًا أمام المحاسبة على أخطائهم،
ويجب أن نلاحظ أن الكلام في الآية جرى فيمن أشكل أمره، والتبس شأنه، أي: التبس علينا فلا نعرف هل هو مسلم حقًا أم ليس مسلمًا، أو هو مسالم أو غير مسالم، فعند ذلك يغلب جانب الأمان والعفو والسلام، وتتضمن الآية التهديد الشديد لمن يستعجل فيتهم أحدًا من الناس بعدم الإسلام، أو بعدم إلقاء السلم.
☼☼☼☼
وفي هذه الجملة عدة قراءات توضح مشاهدَ متعددة، يمنع فيها إيذاء من ألقى السلام:
الـمشهد الأول: توضحه قراءة نَافِع، وَابْن عَامِرٍ، وَحَمْزَة، وابن جماز، وَخَلَف، قال الله عز وجل: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] والسلم معناه:
الصلح، وَهُوَ ضِدُّ الحَرْبِ، أو يكون المعنى: الإسلام، أي: ألقى إليكم علامة تدل على إسلامه،
وَهذا التعبير القرآني الـمبتكر (أَلْقَى السَّلَمَ) يصور لنا أن السلم كأنه كان في يده، فرماه المحارب أمام العالم لما احتاج إلى إلقائه أَظْهَرَهُ بَيْنَكُمْ -مسلمًا كان أم كافرًا-، وذلك يعني أنه مهما تأخر في إظهار الـميل إلى الصلح ثم أظهره، فلا تنفروا عنه، ولا بد عند ذاك من التبين، والتثبت.. انظر لشدة تشوف الإسلام لحقن دماء الناس.
وقوله ﴿لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ تدل على أنه وصل إلى السلم عن طريق ادعاء الإسلام، فقال: أنا مسلم، فعند ذلك لا تقولوا له لست مؤمنًا، احترسوا أن تفعلوا ذلك؛ إذ إنكم تجعلون هذا الرفض منكم وسيلة لتهدروا حقه في الأمان.
☼☼☼☼
المشهد الثاني: توضحه قراءة ابْن وَرْدَانَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ في قوله عز وجل: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] بِفَتْحِ المِيمِ الثَّانِيَةِ بِصِيغَةِ اسْمِ المَفْعُولِ، أَيْ: لَا تَقُولُوا لَهُ -سواء أكان مسلمًا أم كافرًا-: لن تحصل على الأمان منا بل ستقتل أو تؤسر.. ينهاهم الله عن إيذائه، ويأمرهم بتأمينه حتى يتبينوا ويتثبتوا من حقيقة أمره، وهو في هذه الحالة إما أن يكون ألقى السلم راغبًا في الدخول في الإسلام، وإما أن يكون كافرًا باقيًا على كفره لكنه أراد إبرام اتفاق صلحٍ وسلام.
☼☼☼☼
المشهد الثالث: توضحه قراءة البَقِيَّةُ ﴿السَّلَامَ﴾ بالألف و﴿مُؤْمِنًا﴾ بكسر الميم، وَهُوَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ مَعْنَى السَّلَامِ ضِدَّ الحَرْبِ، وَمَعْنَى تَحِيَّةِ الإِسْلَامِ بأن يقول: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أو يقول: إني مسلم.
والذي يلقي السَّلم إما أن يكون رجلًا دخل الإسلام، وطلب الصلح والسلام، وإما أن يكون عدوًا كافرًا مال إلى الصلح رغبًا أو رهبًا، وكل من الصورتين لا بد فيها من التبين والتثبت، أي: لا بد من البحث عن حالته، وهل يريد الصلح حقًا أم يريد الخداع، والخيانة، وهذا يقتضي تأمينه ريثما يتم التأكد من حقيقة حاله.. لكنه بمجرد ذلك القول وجب عليكم أن تمنحوه الأمان.
ومثل ذلك: أن تصدر أدنى عبارةٍ من الضارب في سبيل الله تدل على التأمين، فيجب عليه أن يلتزمها، ويفي بحقها، فعن أبي وائل قال: جاءنا كتاب عمر ونحن نحاصر قصر فارس فقال: إذا حاصرتم قصرًا، فلا تقولوا انزل على حكم الله فإنكم لا تدرون ما حكم الله ولكن أنزلوهم على حكمكم ثم اقضوا فيهم، وإذا لقي الرجل الرجلَ فقال: لا تخف، فقد أمنه، وإذا قال: مَتَّرْس فقد أمَّنه. إن الله يعلم الألسنة كلَّها، و«مترس» كلمة فارسية معناها لا تخف، وهي بفتح الميم وتشديد المثناة واسكان الراء بعدها مهملة، وقد تخفف التاء، وقيل: بإسكان المثناة وفتح الراء، ووقع في الموطأ: مطرس بالطاء بدل المثناة، وروى بن أبي شيبة ويعقوب بن سفيان في تاريخه من طرق بإسناد صحيح عن أنس بن مالك قال: حاصرنا تستر فنزل الهرمزان على حكم عمر فلما قدم به عليه استعجم فقال له عمر: تكلم لا بأس عليك وكان ذلك تأمينًا من عمر، ورويناه مطولا في سنن سعيد بن منصور عن أنس قال: بعث معي أبو موسى بالهرمزان إلى عمر، فجعل عمر يكلمه، فلا يتكلم فقال له: تكلم قال: أكلام حي أم كلام ميت؟ قال: تكلم لا بأس فذكر القصة قال: فأراد قتله. فقلت: لا سبيل إلى ذلك قد قلت له تكلم لا بأس. فقال: من يشهد لك؟ فشهد لي الزبير بمثل ذلك، فتركه فأسلم وفرض له في العطاء [1].
☼☼☼☼
ويوضح شدة الأمر بتأمين من يلقي السلام ما جاء عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ فَصَبَّحْنَا الحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَطَعَنْتُهُ، فَوَقَعَ فِي نَفْسِى مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَقَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ». قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلاَحِ. قَالَ: «أَفَلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لاَ». فَمَازَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَىَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّى أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ. قَالَ فَقَالَ سَعْدٌ: وَأَنَا وَاللَّهِ لاَ أَقْتُلُ مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو البُطَيْنِ. يَعْنِى أُسَامَةَ. قَالَ رَجُلٌ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] فَقَالَ سَعْدٌ قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ [2].
ويدخل في إلقاء السلام أن يبين الرجل الذي لحق بالمعتدين أنه ليس منهم، وإنما عرض له عارضٌ جعله يلحق بهم، فعند ذلك يتم التثبت منه، وقد وقع ضمن موقعة بني جذيمة من الأخطاء أن قتل بعض الصحابة رجلًا من هذا الصنف فعاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وفي رواية النسائي:
كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ جَيْشًا أَوْ سَرِيَّةً قَالَ لَهُمْ: «إِذَا رَأَيْتُمْ مَسْجِدًا أَوْ سَمِعْتُمْ مُؤَذِّنًا فَلاَ تَقْتُلُوا أَحَدًا » ، فكأن الصحابة فهموا الإطلاق من هذا، وهو مُقَيَّدٌ بهذه الآية- فَبَعَثَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةً فَأَمَرَنَا بِذَلِكَ فَخَرَجْنَا نَسِيرُ فِي أَرْضِ تِهَامَةَ، فَأَدْرَكْنَا رَجُلًا يَسُوقُ ظَعَائِنَ فَعَرَضْنَا عَلَيْهِ الإِسْلاَمَ فَقُلْنَا: أَمُسْلِمٌ أَنْتَ؟ فَقَالَ: وَمَا الإِسْلاَمُ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ فَإِذَا هُوَ لاَ يَعْرِفُهُ قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ فَمَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ؟ قُلْنَا: نَقْتُلُكَ فقال الفتى: إني لست منهم أني عشقت امرأة منهم فدعوني أنظر إليها نظرة قَالَ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَظِرِيَّ حَتَّى أُدْرِكَ الظَّعَائِنَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، وَنَحْنُ مُدْرِكُوكَ فَخَرَجَ فَأَتَى امْرَأَةً وَهِيَ فِي هَوْدَجِهَا فَقَالَ: أَسْلِمِي حُبَيْشُ قَبْلَ انْقِطَاعِ العَيْشِ أَسْلِمِي عَشْرًا وَثَمَانِيًا تَتْرَى وَتِسْعًا وِتْرًا.
☼☼☼☼
قال ابن حجر: وذكر ابن إسحاق من حديث ابن أبي حدرد الأسلمي قال: كنت في خيل خالد، فقال لي فتى من بني جذيمة قد جمعت يداه في عنقه برُمَّة: يا فتى هل أنت آخذ بهذه الرُّمة -أي: الحبل- فقائدي إلى هؤلاء النسوة، فقلت: نعم فقدته بها. وفي رواية: فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي لَسْتُ مِنْهُمْ، عَشِقْتُ امْرَأَةً فَلَحِقْتُها فَدَعُونِي أَنْظُرْ إِلَيْهَا، ثُمَّ اصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ، فَإِذَا امْرَأَةٌ طَوِيلَةٌ أدماءُ فَقَالَ لَهَا: اسْلمِي حبَبْشُ قَبْلَ انْقِطَاعِ العَيْشِ، فَقَالَتْ: اسْلِمُ عَشْرًا أَوْ تِسْعًا تَتْرًا، ثُمَّ قَالَ:
أَرَأَيْـتِم لَـوْ تَبِعْتُكُـمْ فَـلَحِـقْتُكُـمِْ
بِحِـلْيَةَ أَوْ أَدْرَكْتُكُـمْ بِالخَـوَانِـقِ
ألم يك أهـلاً أَنْ يُنَـوَّلَ عَـاشِـقٌِ
تَكَلُّفَ إِدْلاجِ السُّـرَى وَالـوَدَائِـقِ
فَلاَ ذَنْبَ لِـي قَدْ قُلْتُ: إِذْ أَهَلْنَا مَعًاِ
أَثِيبِي بِوَصْلٍ قَبْلَ إِحْدَى الصَّفَائِقِ
أَثِيبِي بِوَصْلٍ قَبْلَ أَنْ يَشْحَطَ النَّوَىِ
وَيَنْأَى لأمـرٍ بِالحَبِيـبِ المُفَـارِقِ
قَالَتْ: نَعَمْ، فَدَيْتُكَ، ثُمَّ أَتَانَا فَقَالَ: شَأْنُكُمْ فَقَدَّمْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ، فَنَزَلَتِ الأُخْرَى عَلَيْهِ مِنْ هَوْدَجِهَا فَحَنَتْ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَتْ.
قَالَ: فَقَدَّمُوهُ فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، فَجَاءَتِ المَرْأَةُ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ فَشَهِقَتْ شَهْقَةً، أَوْ شَهْقَتَيْنِ، ثُمَّ مَاتَتْ فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرُوهُ الخَبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَحِيمٌ [3].
☼☼☼☼
فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يعاتبهم على عدم التثبت والبيان في التعامل مع حالة مثل هذه الحالة، ويخطئ فعلهم، وكل ذلك تشوف لدرء القتل بالشبهة.. فماذا يصنع مجرمو الأرض الذين يقتلون الإنسان وقد ألقى السلام أو السلم وهم يزعمون أنهم فعلوا ذلك في سبيل الله، قال تعالى ملكه: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5].
انظر عظمة السمو الإسلامي في التعامل مع العالم.. إن الله يأمر بحقن دماء المسلمين والمسالمين.. إما بأن يدخل الناس في الإسلام، وإما بأن يميلوا نحو السلام.. إن الله يُحَذِّرُ المسلمين من تجاوز هذا القانون الصارم.
[1] فتح الباري – ابن حجر (6 / 274).
[2] صحيح مسلم (1 / 67) برقم 96 .
[3] المعجم الكبير للطبراني (10 / 62) برقم 11869، السنن الكبرى للنسائي (8 / 122) برقم 8787، وأشار ابن حجر في فتح الباري (8 / 58) إلى صحته، وحسنه الهيثمي، ووافقه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 2594.