الإعلان الإلهيُّ العالميُّ للبشريَّة عن نظام الحياة في الأرض وأدلته المبهرة
13 يوليو، 2024
181
تمضي سورة البقرة لتشرق على البشرية ببصائرها وتنثر عليها من أنوارها ومن ذلك هذا
الإعلان الإلهيُّ العالميُّ للبشريَّة عن نظام الحياة في الأرض {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]
الآن اســتمع معــي لمضمــون هــذا الإعلان المذهــل الــذي يأخــذ الأنفاس.. إنــه الإعلان الإلهيُّ الموجــه للعالــم: ﴿ َيا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: 21]، أعلــن اللــه أعظــم إعــلان للعالــم أجمــع، ومنهـم الأصنـاف الثلاثـة السـابقون: المتَّقــون، والكفَّــار المتطرِّفــون، وزاعمــو الإيمــان:
التزموا بالنِّظام الوحيد الذي يصلح لكم أنفسكم، ويصلح العالم من حولكم، واعبدوا ربَّكم موحِّدين له في العبادة، ونظام العبادة يوصلكم إلى مرتبة التَّقوى، التي تعني وجود الإنسان الصالح الذي يتَّقي المخافات، والمكروهات المستقبليَّة الدُّنيويَّة، والأُخرَوِيَّة.
بصيرة [1]
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ﴾ إنه نداء عالميٌّ، يخاطب الله فيه البشريَّة على قدم المساواة.
بصيرة [2]
يدخل الكفَّار والمنافقون في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾؛ ويمنحنا ذلك بصيرة التَّواصل الحكيم الحَذِر معهم؛ لنخفِّف من شرِّ المتطرِّفين، ونجذب المتابعين:
بصيرة [3]
الدَّعوة إلى عبادة الله هي أوَّل واجب ينبغي أن يقوم به المصلحون، والعبادة هي النِّظام الذي يذلِّل نفسك، وينظِّم الحياة الإنسانيَّة؛ لتتوافق بسعادة مع نظام الكون الذي جعله الله U في السَّمَوات والأرض، ويبصِّرنا بذلك قوله تعالى ذِكْرُهُ: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: 21].
بصيرة [4]:
قوله تعالى: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ يبصِّرنا بأن التَّعريف بنظام العبادة الموحِّدة لله إجمالًا تعريفٌ بالله -جلَّ مَجدُهُ-، وهذه هي البداية المنطقيَّة الحكيمة في القرآن الذي يمثِّل كتاب المعرفة الإنسانيَّة الحقيقيَّة؛ ولذا ساق أدلته بأوضح طريق يمكن للإنسانيَّة أن تدركه.
بعد أن سمع العالم هذا النِّدَاء الذي يدعوهم إلى عبادة الله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: 21]، هنا قد يتساءل السَّامعون: ما الأدلَّة على أن الله يستحقُّ العبادة دون غيره؟
الجواب: هنا يأتي:
الأدلَّة والبراهين الإقناعيَّة على استحقاق الله تعالى للعبادة [البقرة: 22-29]
الدَّليل الأول: دليل التَّربية، ويبصِّرنا بهذا الدَّليل قوله تعالى: ﴿رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: 21]:
من التربية، والرَّبُّ هو:
الأول: السَّيِّد المطاع.
والثاني: المربِّي للشيء حالاً فحالاً من التَّربية.
والثالث: المالك له.
فهو أنشأنا من العدم، وغذَّانا بالنِّعم، ووالى علينا شتى أنواع العطاء والكرم.
الدَّليل الثَّاني: دليل الخلق {الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21]
كلمة (خلق) تدلُّ على إيجاد شيء لم يكن موجودًا، ثم تقدير الشَّيء الذي تمَّ إيجاده، وفي هذه الحالة فالخالق الأوَّل هو مصدر الخلق، فلا يحتاج إلى خالق.
ويبطل السُّؤَال: من خلق الخالق، فالله أحدٌ صمدٌ، لم يلد ولم يولد، ولهذا قال علماؤنا: “ إلهي كيف يستدلُّ عليك من هو في وجوده مفتقر إليك”. (البحر المديد 3/25)
الدَّليل الثَّالث: دليل خَلْق من كان قبلنا إلى الإنسان الأوَّل: {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21]
بصيرة: العبادة سبيلها العلم بأن الله خلق الكون، والعبادة مجاهدة للنَّفس، نتيجتها تحقُّق التَّقوى، ويبصِّرنا بذلك {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]
الدَّليل الرَّابع: دليل الإقناع بالنَّتيجة المثلى المتوقَّعة من العبادة، وهي (تكوين الحياة الآمنة من المخافات) ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21]: وذلك يتحقَّق بـ(التَّقوى)، وهذه النَّتيجة تلبِّي مصالح البشريَّة الدُّنيويَّة، ولا يمكن أن تتحقَّق هذه النَّتيجة إلا بعبادة الله وحده.
الدَّليل الخامس: دليل المسكن {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة: 22]
أي: جعلها لكم فراشاً تصنعون على ظهرها ما تصنعونه على الفِرَاش الذي تتحكَّمون به كيف شئتم، وجمع الله له بين خصائص مدهشة، فهي:
- مسطَّحة حال تكوُّرها.
- وساكنة حال تحرُّكها.
- ومتنوعة التضاريس، والعناصر، والمواد؛ ليستعان ببعضها على تشكيل بعضه الآخر.
الدَّليل السَّادس: البناء العظيم المحيط بأهل الأرض {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة: 22]
وسُمِّيت السَّماء كذلك؛ لعلوِّها على الأرض، وعلى سُكانها، وهي بناء مُحْكَم مرتفع، بغير عمد مرئية، لا يمكن أن تختلَّ قوانينه، أو نُظُمُه بفعل إنسانيٍّ.
الدَّليل السَّابع: الأمن المائي المجاني، فالله الذي يُكَوِّن الماء ويتحكَّم في إنزاله: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [البقرة: 22]
ولا يستطيع أحد أن يزعم أنه يمكنه توليد الماء من العدم، أو التحكُّم في إنزاله في المناطق المختلفة من الأرض.
الدَّليل الثامن: دليل الرِّزْق والتَّغذية (الأمن الغذائي): {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22]
والأمن الغذائيُّ الإلهيُّ لن يستمرَّ لسنتين، كما تفعل الدُّول التي تتخذ الاحتياطات الغذائيَّة؛ خوفاً من النَّكبات والحروب، بل هو مستمرٌّ منذ ما قبل آدم على امتداد السَّنوات والأعوام، ولمختلف الأجناس والأقوام.
بصيرة [1]
- أدلَّة الخلق الإجماليَّة، والتَّفصيليَّة السَّابقة، تشكِّل أعظم المعجزات البرهانيَّة على استحقاق الله للعبادة.
بصيرة [2]
- النَّتيجة الحاسمة لهذه الأدلَّة: التَّأكيد على توحيد مَنْ صنع ذلك، ونفي الشِّرك عنه، وتجد هذه النَّتيجة الحاسمة في ختام الآية: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]
- بصيرة [3]
- ختم الله هذه الجملة: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } [البقرة: 22] بقوله: { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }؛ لأنه يخاطب كلَّ واحدٍ من أفراد البشريَّة بما هو بدهيٌّ، سواء أكان عالماً نحريرًا، أم كان من عامَّة الناس.
والنِّدُّ: العِدْلُ والمِثْل، وهو مثْل الشيءِ الَّذِي يُضادُّه فِي أمورِه ويُنَادُّهُ، أي: يخالفُه.
وقال (إريك ميتاكساس) موجِّهًا ضربة قاضية للإلحاد: “إن أعظم معجزة على مرِّ الزَّمان هي وجود الكون، ولا يكاد يقترب شيء من عظمة هذه المعجزة. إنها أمُّ المعجزات. إنها المعجزة التي تشير حتمًا عند كلِّ ومضة ضياء تنبعث من كلِّ نجم من النُّجوم إلى شيء، أو أحد، فوق الكون“. (ينظر: موقع “عربي21” نقلًا من صحيفة (وول ستريت جورنال)
الدَّليل التَّاسع: دليل التَّحدِّي، وإثبات النُّبوَّة:
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23]
هذا دليلٌ مزدوجٌ له هدفان:
- أولهما: تتمَّة إثبات وحدانية الله بأسلوب عقليٍّ مختلفٍ عن الأدلَّة الأخرى؛ إذ القرآن مكوَّنٌ من الأحرف التي تتكلَّمون بها، لكنه معجزٌ في ذاته، فلا بدَّ أن يكون دالًّا على أنه كلمات الإله الذي تجب عبادته.
- والثاني: هذا الدليل انْتِقَالٌ لِإِثْبَاتِ ركن الإيمان بالمَلَك الذي نزل بالوحي، وبالكتاب المنزَّل، وبالرسول الذي جاء بالكتاب، فأَقَامَ فيما سبق الدَّلَائِلَ الماديَّة المشاهدة الْقَاهِرَةَ عَلَى إِثْبَاتِ وحدانية الله U في استحقاقه لأن يعبد، وَأَبْطَلَ الشِّرك، وهنا أثبت ما يتعلَّق بالنُّبوَّة: المَلَك، والكتاب، والرسول، على هيئة التَّحدِّي.
الدَّليل العاشر: الإقناع بالتَّرهيب من عاقبة السُّوء في المستقبل لمن يغطِّي الحقائق:
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24]
الدَّليل الحادي عشر: الإقناع بالتَّرغيب بحسن العاقبة في المستقبل لمن يجمع الاعتقاد الصَّحيح، والعمل الصَّالح:
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25]
الدَّليل الثَّاني عشر: دليل صِغار المخلوقات:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } [البقرة: 26]
الدليل الثالث عشر: دليل مراحل الوجود الإنساني:
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28]
أي: كيف تسترون حقيقة الإيمان بالله ومراحل وجودكم الإنساني خمس لا يتحكَّم بها أحدٌ إلا هو: ثلاث مشاهَدة (العدم، ثم الحياة، ثم الموت)، واثنتان غيبيَّتان تدلُّ عليهما المراحل المشاهدة السَّابقة، وهما: (الحياة الأخرى، ثم الرجوع إلى الله U للحساب).. إنَّ كفركم بمن يتحكَّم بكم وجودًا وعدمًا وعنده حسابكم النهائي حالة خَبَل عقليٌّ، فالاستفهام في قوله: ﴿كيف﴾ للتَّعجب والإنكار التَّوبيخيِّ.
وكتب (Lammens) بأن القرآن يعتبر تقريبًا أنَّ حالة الكفر هي حالة ضعف في العقل البشريِّ.
الدليل الرابع عشر: دليل التسخير لخيرات الأرض؛ ليتم الاستمتاع بالحياة:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] وكلمة: {جَمِيعٗا}، تدلُّ على أن كمال الاستمتاع الحياتيِّ بالأرض لا يتم إلا باستشكاف الأرض، والبحث عن خيراتها كلِّها، وهذا يقتضي التَّعاون، والتَّآزر، والتَّساند، والتَّعاضد بين أبناء البشريَّة.
الدَّليل الخامس عشر: دليل الملك والحكم للمخلوقات العظيمة:
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29]
والمعنى -كما يفهم من كلام الطَّبريّ وابن كثير -: قصد وأقبل إليهنَّ، فَعَلَا عليهنَّ، وارتفع، فدبَّرهنَّ بقدرته، وخلقهنَّ سبع سموات، وخلقهنَّ أكبر من خلق الناس، ولا يوجد أحد من الجبابرة الذين زعموا الألوهِيَّة يدَّعون أنَّهم يقدرون على شيء منها، فهي من أعظم أدلَّة استحقاق الله للإيمان به، وعبادته.
الدَّليل السادس عشر: دليل العلم الشامل،
ويبصِّرنا بذلك قوله -جلَّ ذكره-: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29]
فمن لا يعلم شيئًا لا يستحقُّ أن يُعبد، بل الذي يُعبد هو الذي علم كلَّ شيء، وناسب وجود هذا الدَّليل قبل قِصَّة آدم، حيث لا يعلم بتفاصيلها إلا الذي خلق آدم.
وبهذا ترى هذه البراهين المبهرة على هذا الإعلان المبين للوجهة الإنسانية الصحيحة نحو الحقوق الإلهية