المقالات

ما الاستراتيجية النبوية في صنع السلام والردع، وكيف نستفيد منها؟

أ.د/ عبد السلام المجيدي

{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 84]

الاستراتيجية النبوية في صنع السلام والردع، وطريقة الاستفادة منها

يمضي القرآن في بيان أهم استراتيجيات الأمن والحماية للأمة والإنسانية وهي استراتيجية أخذ الحذر فيتعمق في بيانها وذكر مبادئها وفي أثناء ذلك يذكر القوانين المهمة ومنها أنه يجب الاستفادة من الاستراتيجية النبوية في صنع السلام، فمن مبادئها إيجاد حالة توازن الردع بالجمع بين التكليف العسكري لكل فردٍ قادرٍ، والتعبئة القتالية وإظهار الرغبة في السلام في الوقت ذاته. ويُبَصِّرُنا بذلك قوله: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 84]، فتخلف الآخرين لا يعني سقوط الواجب عن القادر حسب طاقته، وهنا تظهر استراتيجية الردع بصورة فعالة؛ إذ سيشعر العدو بالرعب عند علمه بأن كلَّ فردٍ موجودٍ سيظل يقاوم مهما اقتضت التضحيات، وبذا ينزل التوفيق الإلهي لكف بأس الـمعتدين، وانتزاع حقوق الـمستضعفين.

لا بد أن نشير إلى المناسبة والاتصال بين هذه الآيات وما قبلها؛ إذ الفاء في قوله ﴿فَقَاتِلْ﴾ تشير إلى ارتباط جاد، مع أن المرء ربما استبعد الارتباط بسبب فحوى الآية:

بين الله جل جلاله فيما سبق ضرورة الحفاظ على الأمن من خلال استراتيجية أخذ الحذر من انتشار الدعايات الإعلامية المضللة، والشائعات السيئة في مجالي الأمن والخوف، وحذر من التلاعب بالقوانين والنظم، بالموافقة عليها ظاهرًا ومخالفتها واقعًا، ونبه إلى العناصر التي تحرف كلام القيادة النبوية، ولإشغال المجتمع عن انتشار الدعاية المضللة الخارجية والداخلية، ولإبعاد الأفراد عن التربية الغالية والمنحرفة يبين الله ضرورة التربية على الأمرين معًا: الاستعداد العسكري، والتعبئة العامة، وإظهار الرغبة في السلام في الوقت ذاته؛ لأن إشاعة السلام مقصودٌ أصليٌّ من مقاصد الإسلام؛ ولعل هذا أوضح درجات الاتصال بين آية التعبئة القتالية: ﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ (النساء: 84) وآية الشفاعة {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء: 85]، وكذلك آية مقابلة التحية بمثلها {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، بل إنك من خلال هذا الفهم تدرك سبب ما قد تظنه إقحامًا لهاتين الآيتين في هذا الموضع، فلم يُذكرا مثلًا في سورة الحجرات، أو في أواخر سورة الفرقان، والإقحام قد يقول به المرء مندهشًا؛ إذ ما قبلهما في التعبئة القتالية وما بعدهما في ظروفٍ مماثلة وهو قوله تعالى جده: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 88]، وأما آية التوحيد والمحاسبة وهي قوله تعالى ذكره: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87] فلا يستغرب مجيئها عند ذكر أي جانبٍ من جوانب التشريع الإيمانية أو الشعائرية أو التجارية الاقتصادية أو التعاملية أو الاجتماعية أو السياسية أو الجنائية؛ إذ هي تحكم ذلك كله.

ويزيد الأمر وضوحًا التشوف الشديد للبحث عن السلام مع الأطراف الأخرى مما سيرد في القسم الآتي مباشرة حيث يقول الله جل مجده: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء: 90].

فقوله تعالى جده: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ } [النساء: 84] خطاب لك أيها القارئ، وأول قارئ يخاطب بهذا القيادة النبوية، وتطبيق ذلك من أعظم وسائل إنجاح استراتيجية أخذ الحذر؛ إذ إن ذلك يؤدي إلى إقامة حالة الردع للعدو المتربص داخليًا وخارجيًا، فهو يشعر بأن القائد قد بلغ أقصى درجات الحذر والجدية، وأن كل فردٍ يقرأ القرآن يحافظ على أمن المجتمع ويشعر بأنه مخاطبٌ بذلك الواجب بغض النظر عن تثاقل الآخرين، وجمعت هذه البصيرة القرآنية بين التكليف الفردي مهما تثاقل الآخرون وبين التعبئة العامة،

والفاء توضح الارتباط التام بين هذه الآية وما قبلها، والتقدير:

قد أوجب الله عليكم أن تطبقوا استراتيجية أخذ الحذر { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] وذلك يقتضي التربية العسكرية الكاملة التي تعني تقسيم الجيوش إلى مجموعات، وعند تحتم المواجهة قد يكون النفير على هيئة مجموعات، وقد يكون حشدًا لجميع الجيش، واستنفارًا لكل العناصر {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا } [النساء: 71]،

وتطبيق استراتيجية أخذ الحذر يقتضي القدرة على المواجهة مهما كانت النتائج {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء: 74]

واستراتيجية أخذ الحذر تقتضي الدفاع عن القضايا العادلة في كل مكان، وإنقاذ المستضعفين من أيدي المضطهدين {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرً} [النساء: 75]

والفارق بين قتالكم وقتال المجرمين أنكم تقاتلون في سبيل الله لإنقاذ الإنسانية بينما يقاتل المجرمون لزيادة الطغيان، وإشباع أنفسهم المريضة الأنانية، وإرضاء الشيطان {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } [النساء: 76]

والقتال ليس حياة المسلمين بل يجب أن يكف المسلمون أيديهم ويعلموا العالم بمحبتهم للسلام {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء: 77]، ولكنه يحرم التخلف عن القتال وقت تحتمه، وساعة وجوبه {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } [النساء: 77]

فإذا طبقتم هذه الاستراتيجية واتبعتم تلك التكاليف فترقبوا النتيجة العاجلة أو الآجلة: إنها الردع والدفع والرفع، ويُبَصِّرُنا الله بها بقوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} فخيار حماية المستضعفين ورد العدوان لا يسقط بأي حال ما دامت مقتضياته موجودة مهما قل الأنصار؛ إذ هو الأساس لاستجلاب نصر الله تعالى بكف أذى المعتدين، فليس على الرسول صلى الله عليه وسلم ذنب إذا بلغ وحرض ثم لم يطعه أحد، وهذه الآية من أقوى الآيات في وجوب نصرة المستضعفين، ولو لم يترتب على تلك النتائج خلافًا لما قرره الرازي  من «أَنَّ الجِهَادَ فِي حَقِّ غَيْرِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ فُرُوضِ الكِفَايَاتِ، فَمَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ يُفِيدُ لَمْ يَجِبْ، بِخِلَافِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنَّهُ عَلَى ثِقَةٍ مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ» [1] فهذا فهم غريب بعيدٌ عن السياق، وحرر ابن عطية المسألة فقال: «هذا أمرٌ في ظاهر اللفظ للنبي n وحده، لكن لم نجد قط في خبر أن القتال فرض على النبي صلى الله عليه وسلم دون الأمة مدة ما، المعنى- والله أعلم- أنه خطاب للنبي n اللفظ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه، أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يستشعر أن يجاهد ولو وحده» [2].

فهل ذلك يعني أن الإنسان لو بقي وحيدًا فيجب عليه أن يندفع وسط المعتدين، وقد يؤدي بنفسه إلى الهلكة؟

الإجابة على هذا تجبرنا على التفصيل وفق الأدلة المختلفة؛ فإذا أراد العدو أن يجتاح المؤمنين لا محالة، وهرب مجموعة من المؤمنين دون أن يتحيزوا إلى فئة، وإنما هو هروب يتبعه هروب، كل ما دخلوا مكانًا دخل العدو فيه، فهذا ليس تحيزًا إلى فئة، بل هو تولية للأدبار، ففي هذه الحالة يحرم الفرار من الزحف، وبقاء المرء وحيدًا في المعركة من أعظم العبادات التي يباهى بها يوم القيامة كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في: «ثلاثة يحبهم الله وثلاثة يشنؤهم الله عزَّ وجلَّ -فذكر فيهم- الرجل يلقى العدو في الفئة فينصب لهم نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه» وفي رواية الترمذي: «ورجل كان في سرية فلقي العدو فهزموا وأقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح له» [3]، وهالك معذور خير من ناجٍ فرور.

فهنا لا مجال للانسحاب ولو بقي المرء وحيدًا؛ إذ لا يوجد مجال لتطبيق الأمرين المذكورين في جواز الانسحاب في قوله تعالى ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 15، 16]

وأبرز مثالٍ على ذلك أدى إلى نتائج كارثية عندما هجم التتار على المسلمين، فكان المسلمون يهربون فيجتاح التتار، ويتقدمون حتى دمروا نصف العالم.. فليتفكر القوم فالحال كما قال الله جل جلاله: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: 89] يهربون، فيجتاح العدو المدينة، فيهرب هؤلاء يزعمون أن الحكمة تقتضي الهرب، ثم يهربون فيجتاح العدو التي بعدها ثم يهربون، حتى ينتهي البلد بأسره.. ولابتعاد الناس عن المنهج القرآني، والتطبيق النبوي في فهم كيفية بسط أنوار السلام في أزمنة الحرب ترى العدو ينصر بالرعب مع أن هذا إنما كان من خصائص هذه الأمة.

وإنما يجوز الانسحاب عندما يكون الانسحاب حقًا انسحابًا تكتيكيًا كما فعل خالد بن الوليد عندما انسحب في معركة مؤتة وخرج بخسائر غير متوقعة للجيش عند الطرفين، حتى قيل بأنه لم يقتل من المسلمين إلا ثمانية أو اثنى عشر رجلًا من مجموع ثلاثة آلاف قابلوا عدداً ضخماً من العدو، فقيل مائة ألف مقاتل وقيل أكثر من ذلك، فالانسحاب التكتيكي يؤدي إلى الالتفاف على العدو بإيهام العدو بالانسحاب ثم إيقاعه في مصيدة مباشرة أو غير مباشرة، فإن كان الجيش باسطًا سيطرته على عشر مدن فانسحب من المدينة الأولى بزعم أنه انسحاب تكتيكي إلى المدينة الثانية، ثم جاء العدو إلى المدينة الثانية فتم الانسحاب إلى المدينة الثالثة وهكذا حتى فقد كل ما عنده.. فالانسحاب الأول لم يكن إلا فرارًا من الزحف لا انسحابًا تكتيكيًا، والبلاء بعد ذلك سيكون عظيمًا، وهذا ما حصل عندما اجتاح التتار بلاد سمرقند، ثم أفغانستان ثم خراسان، وهكذا حتى وصلوا إلى العراق، والناس الذين يقدرون على القتال ينسحبون، والبقية يبقون تحت رحمة عدو متوحش يُعمل فيهم القتل والسبي، فهناك فرق بين الانسحاب التكتيكي الذي ذكره الله في سورة الأنفال، وبين الانسحاب التام الذي يعني الهزيمة الأسوأ، وهنا تأتي هذه الآية {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 84] وفهم ذلك البراء بن عازب فعن أبي إسحاق قال: قلت للبراء: الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال: لا! لأن الله عزَّ وجلَّ بعث رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ إنما ذاك في النفقة [4]، وقد فرض الله القتال على المؤمنين جميعًا بقوله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [النساء: 74].

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الحرب ليست ضمن أهدافه، بل هدفه السلام، لكن هذا لا يعني عدم الاستعداد العسكري أمام العدوان المجرم، فقال لرسل قريش: «وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الحَرْبُ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاؤوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً، وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاؤوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلاَّ فَقَدْ جَمُّوا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا؛ حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ» [5] ومعنى (جموا) أي قووا، والسالفة صفحة العنق، ويحتمل أن يكون أراد أنه يقاتل حتى ينفرد وحده في مقاتلتهم.

وتعال بنا لننظر الجمال البياني في كلمة ﴿وَحَرِّضِ﴾، فهي مشتقةٌ من حَرَضَ يَحْرُضُ أو حَرِضَ يَحْرَضُ إذا اهتم بشيء واندفع لتحقيقه بقوة بكل مشاعره، فينفعل ويهتاج للوصول إلى ذلك، ومن ذلك {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف: 85]، فقالوا في (الحَرَض) هو الذي أذابه الحزن والمشاعر، وأحْرَضَهُ الحب أي أفسده، كما قال العرجي:

إني امرؤ نابني هم فأحرضني

حتى بليت وحتى شفني السقم

فيكون التَّحْريضُ على القتال: الحثُّ والإحماءُ عليه بشدةٍ وحرصٍ، وتزيينٍ وتسهيل الخطب فيه، وكأنهم إذا خَالَفُوهُ أحرضوا ففسدوا وأُهْلِكُوا[6].

ومن التحضيض بيان الأجور المدهشة التي تنتظر المجاهد في سبيل الله حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرض على الجهاد فيقول: «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلاَ نُبَشِّرُ النَّاسَ قَالَ إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ» [7].

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحرض، فيقوم بالتعبئة العامة محافظة على أمن المجتمع، وإبقاء لجانب القوة مشتعلًا في حياة الناس، ولكن الجهات الخاطئة تستخدم هذه النصوص للتغرير بشباب المسلمين، وللإفساد في الأرض، وكم تدخلت المؤسسات المخابراتية التي تستخدم الأساليب القذرة لإيقاع بعض الشباب في الغلو، ثم استخدام مثل ذلك ذريعة لتكوين (الإسلامفوبيا)، وقد وجب أن يحذر المسلمون من الغلو كما يحذرون من الفسق والجفاء، وأن يحذروا من التلاعب بالنصوص، فبعضهم يأخذ مثل قوله تعالى: { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] ليحل ما حرم الله ويبيحه، ويسوغ الفسق، وبعضهم يستخدمون هذه النصوص التي تحض المسلمين على الجهاد في سبيل الله، لاستخدامها في غير مواضعها، وحسبك أن تفهم النص القرآني وفق الذي حدده النص نفسه، وطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس حسب الأهواء.

وختم الله هذا القانون بتبصيرنا بالاعتماد على بأس الله وتنكيله بعد تمام الاستعداد، فقال: {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا} [النساء: 84]

#المجيدي

مفصل تفسير سورة النساء


[1] تفسير الرازي (10/ 157)، وهو رأي نسبه القرطبي إلى الزجاج.

[2] تفسير ابن عطية (2/ 86).

[3] أحمد(5 / 151) برقم 21378 وقال الأرناؤوط: حديث صحيح وهذا إسناد ضعيف، سنن الترمذي (4 / 698) برقم 2568، ورواية الحاكم ذكرها الألباني في السلسلة الصحيحة (16 / 23) برقم 3478.

[4] أحمد (4 / 281).

[5] البخاري (3 / 253)، وفي مقدمة الفتح (1 / 97): «جموا بالفتح وتشديد الميم، أي: استراحوا، ومنه قوله: مجمة للمريض بكسر الجيم وفتحها وفتح الميم، فإن ضممتها كسرت الجيم، أي: مريحة».

[6] مقاييس اللغة (2/ 41).

[7] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (4 / 19) رقم 2790 .


الكلمات المفتاحية: الاستراتيجية النبوية في صنع السلام والردع ما الاستراتيجية النبوية في صنع السلام والردع، وكيف نستفيد منها؟