المقالات

التربية بالعقوبة التهديدية المرعبة

أ.د/ عبد السلام المجيدي


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 47]
يهدد الله كلَّ من عرف الحقيقة أو قارب أن يعرفها من أهل الكتاب إن لم يؤمنوا بما أنزل الله مصدقًا لما معهم أصابهم بالعقوبات، وأشار إلى حوادث بعينها يعرفونها كقصة أصحاب السبت {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 47]:
وهذه عقوبة مرعبة تزلزل الأقدام، وتقشعر منها الجلود، وترجف منها القلوب، وترتعد منها الأنفس الصادقة، وهي ليست عقوبة خاصة بأهل الكتاب بل تشمل كل من يسمعها ممن يتعالى على الإيمان ومقتضياته جزئيًا أو كليًا حيث سيحدث له الطمس الحسي أو المعنوي..

أفلا يحذر من تباطئه عن إجابة نداء ربه؟ وما للمنتسبين إلى أمة الإسلام يقترفون الإجرام الذي يناقض إيمانهم وهم يمرون على هذا التهديد الرهيب ثم لا يخافون أن يصيبهم؟
فمعنى نطمس: نمحوها فنسويها، فلا يرى فيها عين ولا أنف ولا فم ولا شيء مما يرى في الوجه، والطَّمْسُ إِزَالَةُ الأَثَرِ بِمَحْوِهِ، أَوْ خَفَائِهِ كَمَا تُطْمَسُ آثَارُ الدَّارِ، وَأَعْلَامُ الطُّرُقِ بِنَقْلِ حِجَارَتِهَا أَوْ بِالرِّمَالِ تَسْفُوهَا الرِّيَاحُ عَلَيْهَا، وَمِنْهُ: { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس: 88] ، أَيْ: أَزِلْهَا وَأَهْلِكْهَا، وَالطَّمْسُ عَلَى الأَعْيُنِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} [يس: 66] ، يَصْدُقُ بِإِزَالَةِ نُورِهَا وَبِغُؤُورِهَا وَمَحْوِ حَدَقَتِهَا، ومن ذلك قوله تعالى: {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} [القمر: 37]، والمطموس العين: الذي ليس بين جفنيه شق، ويقال: طمست الكتاب والأثر فلا يرى منه شيء.
وَالأَدْبَارُ: جَمْعُ دُبُرٍ، وَهُوَ الخَلْفُ وَالقَفَا، وقوله:

{فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء: 47] إما أن يراد به انقلاب ما في الوجه ليكون في الخلف، وإما أن يراد أن تفر أصحاب هذه الوجوه فزعًا وهلعًا، فترجع إلى الضلالة التي فرت منها ابتداء، ومن الارتداد على الأدبار أن يقصد المرء الهدى المشرق المبين، ثم يهرب فزعًا منه جزعًا من رؤيته حاقدًا عليه، وهو الذي قال الله فيه: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ } [محمد: 25].
هل هذه العقوبة معنوية أم حسية؟
فبعض أهل العلم جعل الطمس معنويًا، والمعنى: آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهَ مَقَاصِدِكُمُ الَّتِي تَوَجَّهْتُمْ إِلَيْهَا فِي كَيْدِ الإِسْلَامِ، وَنَرُدَّهَا خَاسِئَةً حَاسِرَةً إِلَى الوَرَاءِ بِإِظْهَارِ الإِسْلَامِ وَنَصْرِهِ عَلَيْكُمْ وَفَضِيحَتِكُمْ فِيمَا تَأْتُونَهُ بِاسْمِ الدِّينِ وَالعِلْمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ.
وبعضهم جعله حسيًا لكنه معنى مجازيٌّ، والمقصود به الجلاء، فرجعوا من حيث جاءوا إلى بلاد الشام كما حدث لبني النضير وقريظة، فنقل عن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن زَيْدٍ قال:

هَذَا الوَعِيدُ قَدْ لَحِقَ اليَهُودَ وَمَضَى، وَتَأَوَّلَ ذَلِكَ فِي إِجْلَاءِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ إِلَى الشَّامِ، فَرَدَّ اللَّه وُجُوهَهُمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ حِينَ عَادُوا إِلَى أَذْرِعَاتَ وَأَرِيحَاءَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، كَمَا جَاءُوا مِنْهَا بَدْءًا، وَطَمْسُ الوُجُوهِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: تَقْبِيحُ صُورَتِهِمْ يُقَالُ: طَمَسَ اللَّه صُورَتَهُ كَقَوْلِهِ: قَبَّحَ اللَّه وَجْهَهُ،

وَالثَّانِي: إِزَالَةُ آثَارِهِمْ عَنْ بِلَادِ العَرَبِ وَمَحْوُ أَحْوَالِهِمْ عَنْهَا.
وبعضهم جعل اللفظ حقيقيًا، وأبقى التهديد قائمًا، وقد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة، والعقوبة الحسية هي الأصل؛ فإن الطمس المعنوي واقع عليهم من خلال أفعالهم المجرمة، وتحركاتهم الآثمة، وقلوبهم القاسية المظلمة.
أ.د/ عبد السلام المجيدي

مفصل تفسير سورة النساء


الكلمات المفتاحية: أسلوب التربية القرآنية التربية بالعقوبة التهديدية المرعبة