المقالات

الختام المدهش لبعض آي القرآن

أ.د/ عبد السلام المجيدي

كيف تعزز خواتم الآيات دافعية الالتزام بالأحكام؟

{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35]

انظر أيها المستبصر بالقرآن كيف ختم الله تعالى الآية بقوله ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ فالعلم يتعلق بالمعارف، والخبرة تتعلق بدقائق الأحوال، وجمع الله بين هاتين الصفتين ليزرع أمرين مترابطين:

الأول: بيان أنه عليم خبير بأحوال الزوجين، وأحوال الحكمين، وأحوال المجتمع.. هل يريدون الإصلاح أم الإفساد؟

الثاني: الثقة التامة بالمصدرية التشريعية الإسلامية، فهي مصدرية إلهية، فلنحاور هؤلاء الذين وضعوا التشريعات في المحاكم المدنية، والتفصيلات في النظم الأسرية، ولنسألهم:

من أين أتيتم بها؟ سيقولون من التجارب الإنسانية التي راكمت المعرفة الإيجابية عبر التاريخ، فالحضارة اليونانية كانت تنظر إلى المرأة نظرة سيئة قبيحة، ثم تطوروا رويدًا رويدًا حتى بدأوا يعترفون بحقوق المرأة، فاستفادوا تشريعاتهم من التجارب الإنسانية التي استمرت آلاف السنوات، نقول لهم: لكن الله العليم بخلقه الخبير بما يصلحهم أهدانا تشريعات دقيقة تصلح بها الإنسانية، ونحن لا نجدكم وصلتم إلى ما يقرب منها في الحسن.. أفلا تريحون أنفسكم والإنسانية معكم بأن تنظروا في جمالها وإعجازها؟

وقوله جل ذكره: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ كلمة كان تدل على الحقيقة المحتمة أي هذه صفاته الحسنى اللازمة له دون أن يحصرها زمان، فلا أول لها ولا آخر؛ إذ إن الله هو الأول والآخر، فهو الذي يملك الزمان، وهو عليم بذاته ولا يحتاج إلى التجارب ليتعلم جل في علاه، والإنسان هو الذي يحتاج إلى تجارب وتجارب ليجد الأحسن والأجمل في التصرفات والتدبيرات والتشريعات، وقد تمر الأجيال وتموت الأمم ليتعلم الإنسان المسألة الواحدة، فالله جل ذكره يصف نفسه بالعلم التام والخبرة الكاملة، والخبرة تتعلق بلطيف العلم ودقيقه، والعلم قد يكون وهبيًا وقد يكون كسبيًا بالنسبة للمخلوقات، أما بالنسبة لله عزَّ وجلَّ فهو علم ذاتي، والخبرة قد تتم عن تجارب، لكن خبرة الله سبحانه وتعالى وصف ذاتي لا يحتاج إلى تجارب، ومهما علم البشر فإن علمهم لا يساوي شيئًا يذكر أمام علم العليم الخبير، ويعبر العبد الصالح الخضر عن ذلك لموسى عليهما الصلاة والسلام عندما جَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ نَقْرَةً، أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِي البَحْرِ فَقَالَ الخَضِرُ: «يَا مُوسَى مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللهِ إِلاَّ كَنَقْرَةِ هَذَا العُصْفُورِ فِي البَحْرِ» [1]، فما الذي أنقصه من ماء البحر؟

هنا تجد الله -عزَّ جارُه- يزرع في قلوب المسلمين الثقة في المصدرية التشريعية حتى لا يتخذوا الشرائع المحلية والدولية وشرائع الغاب والتراب مكان شريعة الملك العلام الجليل الوهاب سبحانه وتعالى، فهذا هو السر في الختم المهاب الجليل لهذه التشريعات بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ عليما وخبيرا للدلالة على لطف علمه ودقة هذا العلم التفصيلي.

نلاحظ بأن الختم نوعٌ من الاعجاز القرآني المدهش المذهل، وهو يتناسب مع الآية ومع طبيعة تفصيلاتها التشريعية، ففي الآية السابقة في ختامها أراد أن يبين للمرأة والرجل أن ربهما علي كبير، فالمرأة الناشز يجب أن تذكر أن الله علي كبير، فلا تستكبر وراء نفوذها إن كانت ذات نفوذ مثلًا، ولا تستقوي بجاهها على إيذاء الرجل، وفي المقابل أراد الله أن يبين للرجل الذي أعطاه الحق في المعالجة وفق ضوابط محددة أنه جل شأنه علي كبير، فلا يتعسف في استخدام حقوقه لتتحول إلى أدوات ظلم للمرأة، فإن فعل فإن ربه علي كبير، وهذا يذكرنا بأبي مَسْعُودٍ البَدْرِىُّ قال: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلاَمًا لِي بِالسَّوْطِ فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ». فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الغَضَبِ، فَلَمَّا دَنَا مِنِّى إِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ». قَالَ فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِى فَقَالَ: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الغُلاَمِ». فَقُلْتُ: لاَ أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا، فقلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ. فَقَالَ: «أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ» [2].

إن أبا مسعود ذكر الله العلي الكبير.. وما له لا يذكره وهو من الجيل الذين يقول الله فيهم: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73].

فانظر جمال الختام لآية معالجة نشوز المرأة بقول ربنا -عزَّ جارُه-: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34] لتناسب فحوى الآية ومضامينها، وكذلك في آية الصلح بين الزوجين عن طريق الحكمين رأيت المناسبة العالية لتختم بقول ربنا جل شأنه ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ لتناسب أيضًا فحوى الآية ومضامينها، وتزرع الثقة في التشريعات السابقة جميعًا، فكأن الله جل جلاله يبين مهما لجأتم إلى المحاكم الدستورية عندكم، مهما لذتم بكبراء رجال القانون والخبراء في العالم الإنساني فلا يمكن أن يكون عندهم العلم التام الذي عند ربكم، ولن تجدوا عندهم الخبرة الدقيقة التي عند مولاكم العليم الخبير.

أ.د/ عبد السلام المجيدي

مفصل تفسير سورة النساء


[1] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (1 / 42).

[2] صحيح مسلم (5 / 91) برقم 4396.


الكلمات المفتاحية: خواتم الآيات