المقالات

الدولة الرسولية في اليمن – قصص مدهشة من الثراء الحضاري والمعرفي (1) محمد مصطفى العمراني

أ. د. عبد السلام المجيدي

على امتداد التاريخ اليمني وما شهده من دول وممالك وسلطنات وانكسارات وانتصارات لم تشهد اليمن الازدهار الحضاري والثراء المعرفي كما شهدته أيام الدولة الرسولية (626 – 858هـ – 1229م – 1454م) والتي كانت مدينة تعز عاصمة لها وامتدت رقعة الدولة الرسولية حتى شملت كافة مناطق اليمن وتوسعت شرقًا حتى وصلت إلى ظفار شرق عمان ، كما امتدت شمالًا حتى وصلت إلى مكة المكرمة وتجاوزتها.
ووصلت الدولة الرسولية بإجماع كافة المؤرخين إلى مستوى كبير جدا من التقدم والتطور في مختلف الجوانب السياسية والإدارية والعلمية والصناعية والزراعية والتجارية وذلك لأن قادة هذه الدولة كانوا من العلماء الذين تميزوا بحبهم للعلم والمعرفة وتقديرهم وإكرامهم للعلماء ، إضافة إلى إسهامات ملوك الدولة الرسولية بجهودهم العلمية الثرية حيث قاموا بتأليف عشرات المؤلفات الهامة والنادرة في الطب، والصيدلة، والفلك، والزراعة، والصناعة، والأنساب، والتاريخ، والجغرافيا، والحرب، والسياسة، وأيضًا اللغة والشعر،

لقد قامت الدولة الرسولية بتشجيع الزراعة والصناعة والتجارة وتوسيعها وتطويرها وفق وسائل وأساليب حديثة جدًا مقارنة بتلك الفترة، وسنذكر في الحلقات القادمة الكثير من القصص المدهشة في هذا المجال، وسنبدأ في هذه الحلقة بذكر بعض قصص حفاوة ملوك الدولة الرسولية بالعلم والعلماء، وهي قصص مدهشة بعضها لا يكاد يصدقها الناس يومنا هذا.

القاضي الأكوع يتحدث عن الدولة الرسولية

يقول القاضي إسماعيل بن علي الأكوع -رحمة الله تغشاه- في كتابه (الدولة الرسولية في اليمن) وهو كتاب نادر حصلت بصعوبة على نسخة منه: (وكان أبرز دول اليمن الحضارية، وأخلدها ذكرا، وابعدها صيتًا، وأغزرها ثراء، وأوسعها كرمًا وانفاقًا هي الدولة الرسولية والتي يعتبر عصرها غرة شامخة في مفرق جبين اليمن في عصرها الإسلامي، وذلك لأن عصرها كان أخصب عصور اليمن ازدهارا بالمعارف المتنوعة، وأكثرها إشراقا بالفنون المتعددة، وأغزرها إنتاجا بثمرات الأفكار اليانعة في شتى ميادين المعرفة، وما ذلك إلا لأن سلاطين وملوك الدولة الرسولية كانوا علماء فاهتموا بنشر العلم في ربوع اليمن على نطاق واسع، ولا سيما في المخاليف التي كانت خاضعة لهم وراضية بحكمهم مثل تعز وزبيد والجند وذي جبلة وعدن وظفار الحبوضي، ومعظم المناطق حتى في مكة المكرمة، بنوا المدارس التعليمية والأربطة الثقافية، واختاروا أبرز العلماء دراية، وأغزرهم معرفة، وأشهرهم ذكرا للتدريس في مجال تخصصاتهم، وأوقفوا عليها كرائم أطيانهم الزراعية لإنفاق محاصيلها على المدرسين، وعلى طلبة العلم ، وعلى القائمين بخدمة الدارسين والعاملين عليها، وتوفير لوازم الانتفاع بها وصيانتها ، كما فتحوا لها خزائن كتبهم التي كانت تزخر بنفائس الكتب وروائعها ونوادرها في شتى فنون العلم).
وقد أحصى بعض المؤرخين أكثر من 150 مدرسة علمية أقامتها الدولة الرسولية، منها ثلاث مدارس بمكة والبقية في مختلف مدن ومناطق اليمن الكبير حينها ، ولم تكن تلك المدارس كمدارس اليوم بل هي أشبه ما تكون بجامعات وأكاديميات علمية مرموقة فيها المئات من العلماء والآلاف من طلبة العلم.
ويرى الدكتور سفيان عثمان -الباحث الحاصل على الدكتوراه في تاريخ الدولة الرسولية- أن الرسوليين غلَّبوا بناء المدارس والمساجد على القلاع والحصون لسببين اثنين:
الأول أن ملوك الدولة الرسولية شكلوا امتدادًا لما بدأه الأيوبيون الذين رأوا أن أنجح وسيلة لمقارعة المد الإسماعيلي الذي كان مسيطرًا على مناطق كثيرة من اليمن هو تدريس مذاهب السنة.
بينما يتمثل السبب الثاني في أن الملوك الرسوليين كانوا علماء وأدباء بل ومؤلفين في التاريخ والأنساب والطب والمساحة ولديهم في ذلك مؤلفات كثيرة ومشهورة.

قصص مدهشة من حب العلم والحفاوة بالعلماء

يذكر العديد من المؤرخين أن خزانة الملك داود بن الملك المظفر كانت تضم مائة ألف مجلد ونيفا وقد أهديت للملك المؤيد نسخة من كتاب ( الأغاني ) بخط ياقوت المستعصمي فمنح من أهداه الكتاب ألفي جنيه ذهبية.

وكان ملوك الدولة الرسولية يكرمون كل من يهدي إليهم الكتب ولاسيما أن يكون العالم قد ألف كتابه وكتب الاهداء عليه للملك الرسولي ومما يذكر في هذا الباب أن القاضي الفقيه جمال الدين محمد بن عبد الله بن أبي بكر الريمي الحثيثي المتوفي 792 هجرية لما فرغ من تأليف كتابه الشهير (التفقيه في شرح التنبيه) في أربع وعشرين مجلدًا تم حملها من بيت الفقيه جمال الدين على رؤوس طلاب العلم إلى قصر السلطان الأشرف إسماعيل بتعز في غرة ذي الحجة سنة 788 هجرية الموافق 1386م في موكب مهيب وبعزف الأبواق وقرع الطبول، وقد كانت الكتب محمولة في أطباق من الفضة ملفوفة بالحرير والديباج ، وسار في الموكب الفقهاء والقضاة والأمراء حتى وصلوا القصر فكان السلطان في استقبالهم وقد أجازه الأشرف ب 48 ألف درهم، وقدر الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه (إنباء الغمر) في ترجمته للفقيه جمال الدين الريمي ذلك المبلغ الذي أكرمه به السلطان الأشرف الرسولي بأربعة آلاف مثقال ذهبا، وذكر صاحب كتاب (تاريخ اليمن) بأن الملك الأشرف أجازه باثني عشر ألف دينار.
وقد حملت تلك الأموال التي منحها الأشرف للفقيه جمال الدين في أطباق من الفضة ملفوفة بأنواع من الحرير والديباج بين يدي القاضي جمال الدين إلى منزله.
وكان السلطان المجاهد علي بن المؤيد الرسولي قد أعطى الفقيه جمال الدين الريمي هبة سنوية كما ذكر ذلك الخزرجي بأن جمال الدين أخبره بأن الملك المجاهد الرسولي منحه في يوم من الأيام أربعة شخوص من الذهب وزن كل مشخص منها مئتا مثقال مكتوب على كل منها ما يلي:
اذا جادت الدنيا عليك فجد بها
على الناس طرا قبل أن تتفلت
فلا الجود يغنيها إذا هي أقبلت
ولا الشح يبقيها إذا هي ولت.

زيارة الحافظ ابن حجر إلى اليمن وكيف أكرمه الملك الأشرف

وقد وفد إلى اليمن الكثير من العلماء المشاهير ممن جاء بنية الزيارة فقط لينال من رفد وكرم ملوك بني رسول -رحمة الله تغشاهم- ما يعينه على تذليل مصاعب الحياة والتفرغ للعلم وليفيد من علمه ويستفيد من علوم ملوك بني رسول ومن علم علماء اليمن ويجيز ويستجيز، يقول الدكتور ثابت الأحمدي في كتابه: (ماذا يعني انتمائي لليمن ؟) ما نصه: (ولما علم علماء الأقطار الإسلامية الأخرى بهذه المنزلة الكبيرة للعلم والعلماء لدى الحكام الرسوليين في اليمن قصدوا بلاد اليمن، واتصلوا بأمرائها وملوكها ، ونالوا منهم الخلع والهدايا والمال الوفير، ومن هؤلاء العلماء الحجاجي والبيلقاني والصاغاني والفيروز آبادي والحافظ المحب الطبري الذي أهدى كتبه للملك المظفر ، كما قدم إليه من بلاد الهند صفي الدين محمد ابن عبد الرحيم).

ومن هؤلاء العلماء الذين قدموا إلى اليمن لزيارة الملوك الرسوليين الإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني صاحب كتاب (فتح الباري بشرح صحيح البخاري ) فقد قدم إلى اليمن سنة 800 هجرية فأكرمه السلطان الأشرف إسماعيل بن الأفضل الرسولي وأغدق عليه من العطايا السنية ما جعل لسانه رطبا بالثناء عليه والمدح والإشادة به وبملكه وقد أكد العديد من المؤرخين أن الملك الأشرف أفرغ عدة خزائن من الأموال وأعطاها للحافظ ابن حجر العسقلاني حيث أجازه ب 100 ألف دينار، وقد عرض عليه الملك الأشرف أن يبقى لديه، كما عرض عليه أن يوليه المناصب العالية لكنه أعتذر إليه بأنه لا يرغب في عمل غير الاشتغال بالعلم، ومع هذا فقد أقام مدة في مدينة زبيد فأخذ عنه بعض علمائها وطلبة العلم فيها وأجاز واستجاز، كما نسخ ابن حجر بقلمه بعض الكتب العلمية التي حرص أن يكون له نسخ منها، ثم زار اليمن مرة أخرى في عهد السلطان الناصر أحمد نجل الملك الأشرف فزاره في مدينة تعز واستقبله الناصر استقبالا عظيما ومدحه ابن حجر بقصائد تضمنها ديوان شعره.

وقد كتب الدكتور عبد الرحمن الصلاحي تفاصيل هامة عن رحلة العلامة ابن حجر العسقلاني إلى تعز يقول فيها: (في زيارته الأولى أهدى للملك الأشرف كتاب “التذكرة الأدبية” أربعين مجلداً لطيفًا، نالت إعجاب الملك الأشرف وأثابه عليها، قال القنوجي، أنه بقي منها عشرون مجلداً موجودة بمكة.

وكان الملك الأشرف لما سمع بقدومه استدعاه للاجتماع به في زبيد، فامتدحه بقصيدة، وأثابه أحسن الإثابة، وعامله بما هو جديرٌ به مِنَ الإجلال والاحتفال.

أما ابنه الملك الناصر ، فقد وقعت له معه قصة ظريفة ، فقد كان الناصر كأبيه عالماً يحب العلم والعلماء ، ومولعاً باقتناء الكتب وتتبعها ، واختيار النسخ المتميزة. وكان الحافظ ابن حجر قد تملك نسخة من كتاب « خريدة القصر » للعماد الكاتب في أربع مجلّدات، في قطع الكبير، كما ذكر هو، وكانت هذه النسخة بخط ابن الفُوَطي (642-723 هـ‍)، أحد النساخ البارعين جداً في الخط ، بل كان أسطورة عصره في حسن الخط وسرعته وطريقته في الكتابة، حتى قال الصلاح الصفدي في كتابه (أعيان العصر ): “وأمّا خطّ ابن الفوطيّ فلم أر أقوى منه ولا أبرع، ولا أسرح ولا أسرع، خطّ فائق، رافع رائق، بديع الى الغاية في تعليقه، وكان يكتب من هذا الخطّ العجيب في كل يوم أربع كراريس( الكراسة= 20 صفحة)، يأتي بها أنقش وأنفس من ذنب الطواويس”.
قال ابن حجر: ” كتب بخطّه المليح كثيرا جدّا.. وكان له نظم حسن ، وخطّ بديع جدّا”.
ثم قال: “ملكت بخطّه «خريدة القصر» للعماد الكاتب في أربع مجلّدات، في قطع الكبير ؛ وقدّمتها لصاحب ‌اليمن ، فأثابني عليها ثوابا جزيلا جدّا”. هذا الثواب الجزيل جداً لابن حجر لم يكن في عرف الدولة الرسولية غريباً ، إلا أنه كان ممزوجاً بالحفاوة والتكريم لابن حجر لنبوغه ومكانته العلمية الفائقة) .

يتبع في الحلقة القادمة إن شاء الله …