المقالات

الفوائد الاستراتيجية لتنفيذ الأحكام الإلهية

أ.د/ عبد السلام المجيدي

ما ثمار تطبيق النظام الإلهي على البشرية؟

البشرية في ظلال الإسلام لا تعلن العبودية بالامتثال فقط بل إن تطبيق النظام القرآني يغيث البشرية بأعظم الفوائد المركزية في الحياة، قال الله تعالى {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 66 – 69]

فبعد ذكر التشريعات القرآنية الحامية للفئات المستضعفة، والمنظمة للحياة البشرية، وذكر المقاصد الكبرى للأحكام القرآنية، وبعد نشر جمال الكلمة الإلهية إشراقا للمعاني الزاخرة، وبعد أنواع الإعجاز البلاغي الفاخر والثراء المعرفي الزاخر، ذكر الله تعالى ثمارا يانعة للاستجابة الإنسانية للتوجيهات والنظم الإلهية في الآيات [66 – 69] لتكون نهرا يروي السائرين وبساتين يأوي إليها العاملون ومن هذه الثمار

الثمرة الأولى: التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يعني القدرة على إدارة النفس الإنسانية بمقاومة أهوائها المستكبرة، ومعاندتها المفتخرة، والثقة بأن الحكم الشرعي خير وأحسن تأويلًا، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله جل ذكره: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾ (النساء: 66)

فهو يدل على معنيين يدلان على قدرتهم على أن يتحكموا بأهوائهم:

الأول: أمرناهم بالتحاكم إليك في أمور الحياة، فشق على بعضهم، ولو أمرناهم بأعظم المشاق من قتل أنفسهم أو الخروج من ديارهم لم يطع إلا قليل منهم،

الثاني: هم يعاندون كل أمرٍ إلهي، فأمرناهم بالمحافظة على الحياة الإنسانية ففعلوا العكس فقتلوا أنفسهم وإخوانهم، وشردوا أنفسهم وإخوانهم من ديارهم، ولو أمروا بعكس ذاك بأن يقتلوا أنفسهم لعاندوا فما فعلوه.

وقد يكون المعنى أنهم أسرى لعنادهم واستكبارهم فيقابلون الأوامر الإلهية التي تحافظ عليهم وعلى الإنسانية بالعكس منها، فلما أمرهم بالمحافظة على الإنسانية صنعوا نقيض ذلك، ولذا يقترفون المنكرات فيقتلون إخوانهم، ويخرجونهم من ديارهم، فكَنَى عن إخوتهم بلفظ (أنفسهم).. والمراد من هذا المعنى أنهم يطيعون أهواءهم وأنفسهم الأمارة بالسوء، فيعاندون الأمر لمجرد صدوره عن ربهم، فلما لم يأمرهم أن يقتلوا إخوانهم بادروا فأراقوا دماءهم، ولو أنا كتبنا عليهم أن افعلوا ذلك ما فعلوه إلا قليل منهم.

فمن أراد أن يملك نفسه ويسمو بها ففي الأوامر الإلهية ما يهذبها ويسمو بها.

الثمرة الثانية:

{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [النساء: 66]

اتباع الأوامر الإلهية خير لهم من كل مصلحة عاجلة يظنونها أولى من فعلها

وقد عبر الله تعالى عن أوامره سبحانه بأنها وعظ لهم؛ لأنها تتضمن النصح المقترن بالرحمة، والتحذير من التبعات المستقبلية إن لم يقوموا بما يؤمرون به.. فيقول: ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم مما اختاروه لأنفسهم في القيام بالمصالح التي تضمن لهم الرقي والمجد في الحياتين مهما بدا من تضحية في طاعة الله فمآلها إلى خير الأفراد والمجتمع.

الثمرة الثالثة:

{وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66]

الطاعة تؤدي إلى الثبات على المبادئ ولزوم الحق، فإن استقام الصالح ومات يكون موته على الحق تثبيتًا لغيره..

وإنما ذلك يكون بطلب الطاعة بعد الطاعة، فمن كانت له بداية محرقة، كانت له نهاية مشرقة، كما قال الحُصَيْنُ بْنُ الحُمَامِ:

تَأَخَّرْتُ أَسْتَبْقِي الحَيَاةَ فَلَمْ أَجِد

لِنَفْسِـي حَيَاةً مِثْـلَ أَنْ أَتَقَدَّمَا

{وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء: 67]

عظَّم الله الأجر الممنوح منه تعظيمًا مشوقًا للنفوس الطامحة الطامعة.. اللهم أذقنا حلاوته: فقال: ﴿ لَآتَيْنَاهُمْ ﴾ فأتى بـ(نا) الدالة على التعظيم، ولم يقل لآتيتهم، ليعظم العطاء بتعظيم المعطي، ثم قال ﴿ مِنْ لَدُنَّا ﴾ وكأنه سيعطيك الأجر مقابل العمل، ثم يزيدك شيئًا خاصًا من لدنه كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا } [الكهف: 65] ثم وَصَفَ هَذَا الأَجْرَ بِالعَظِيمِ، وَالشَّيْءُ الَّذِي وَصَفَهُ أَعْظَمُ العُظَمَاءِ بِالعَظَمَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِي نِهَايَةِ الجَلَالَةِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»[1].

الثمرة السادسة:

اكتساب أحسن الرفقة التي يفتخر بالانتساب إليها

ويُبَصِّرُنا بها قوله: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾ (النساء:69-70):

إنه -تعالى جده- يكمل ثمرات تنفيذ ما يوعظون به أي يطيعونه لكنه هنا أعاد طلب الطاعة مجددًا فقال: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ لماذا أعاد جل جلاله؟

هذه الإعادة تفيد التشويق للتنفيذ، والتهييج ليتصف المنفذ بكمال الطاعة، ويستمر عليها ولا يأتي بمناقضها إلا على سبيل الزلل الذي تمحوه التوبة، وهو التشويق إلى الثمرة المدهشة التي سيجدها المنفذ.. للنتيجة العظيمة التي سيحققها.. للهدف الكبير الذي سيصل إليه.. اسمع له بتلهف حيث قال تعالى ذكره: ﴿ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ من المشهورين العظماء، فكلمة ﴿ مَعَ ﴾ تدل عَلَى أَنَّ مَكَانَةَ مَدْخُولِهَا أَرْسَخُ وَأَعْرَفُ  .. والصحبة للعظماء يتطلع لها المتنافسون، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يشتاق للرفيق الأعلى الأسعد فكيف غيره؟، فعن عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ صَحِيحٌ يَقُولُ: «إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، ثُمَّ يُخَيَّرَ» فَلَمَّا اشْتَكَى وَحَضَرَهُ القَبْضُ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِ عَائِشَةَ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ شَخَصَ بَصَرُهُ نَحْوَ سَقْفِ البَيْتِ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى» فَقُلْتُ: إِذًا لاَ يُجَاوِرُنَا، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ حَدِيثُهُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهْوَ صَحِيحٌ  ، وعنها قالت: لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم أخذتُ يده، فجعلت أمرها على صدره، ودعوت بهذه الكلمات: اذهب البأس رب الناس، فانتزع يده من يدي، وقال: «أسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد»  .

فذكر الله جل جلاله في الآية أربعة مراتب للصحبة: وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ

المرتبة الأولى: مرتبة الأنبياء ﴿مِنَ النَّبِيِّينَ﴾.

والمرتبة الثانية: مرتبة الصديقين ﴿وَالصِّدِّيقِينَ﴾.

و«الصديقون»: الذين بالغوا في الصدق والتصديق للأنبياء، واتبعوا منهاجهم بعدهم حتى لحقوا بهم، فـالصدِّيق، «فِعِّيل» من الصدق إذا كان مدمنًا على الصدق والتصديق للصادقين.

والمرتبة الثالثة: مرتبة الشهداء ﴿وَالشُّهَدَاءِ﴾:

والشَّهِيدُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الفَاعِلِ، وَهُوَ الَّذِي يشهد لله بالوحدانية والقيام بالقسط في هذا الكون كما قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] ثم يجتهد في القيام بشهادة الحق حتى يقدم حياته ثمنًا لإقامة الحجة على الناس من خلال دمائه، فصار شاهدًا على الحق الذي ضحى بنفسه من أجله.

المرتبة الرابعة: الصالحين ﴿وَالصَّالِحِينَ﴾:

وَالصَّالِحُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ صَالِحًا فِي اعْتِقَادِهِ وَفِي عَمَلِهِ.. في سريرته وعلانيته، والصالح هو الذي يكون صالحًا للقيام بواجباته في الحفاظ على صلاح الأرض، وبذا يكون صالحًا ليدخل الجنة، ويرافق النبيين والصديقين والشهداء، ويكون صالحًا لينال رضوان الله جل في علاه.

ووفق هذه المراتب يتقلب الفائزون، فالصالح قد يرتقي إلى مرتبة الشهيد، وقد يرتقي إلى مرتبة الصديق.

ومرافقة الكاملين من أعظم النعيم، فقد قال تعالى: ﴿ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾.

وتشعر بالنور الغامر من هذه الآية عندما يُتبِعُها الله بقوله جل ذكره: ﴿ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾ (النساء: 70)، والفضل الزيادة المخصوصة التي لا يقابلها عملٌ سابق.. اللهم أذقنا أوفر الحظوظ من هذا الفضل.. كيف لا يكون فضلًا من الله وهو جلَّ شأنه يختصر على البشرية مشوار التجارب عندما ينعم عليها بهذه الأنظمة التشريعية الفذة؟ كيف لا يكون فضلًا مِن صاحبِ الفضل الأكمل، وهو -عزَّ جارُه- يُكسب الأجر الكبير على العمل اليسير؟ كيف لا يكون فضلًا وهو يرفع المرء درجاتٍ في الجنات ليتنعم بالصحبة العلوية التي تستجيش مشاعر كل قلب، وتستثير كل عطفة صدق؟.

وهذه الآية أسرت قلوب الـمسلمين بمضمونها، فعن سعيد بن جبير؛ قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محزون، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا فلان! ما لي أراك محزونًا؟». فقال: يا نبي الله! شيء فكَّرت فيه. فقال: «ما هو؟». قال: نحن نغدو عليك ونروح، ننظر إلى وجهك، ونجالسك، وغدًا تُرفع مع النبيين؛ فلا نصل إليك. فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، فأتاه جبريل بهذه الآية: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فبشره.

#المجيدي

مفصل تفسير سورة النساء


[1] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (4 / 143) برقم 3244.


الكلمات المفتاحية: الفوائد الاستراتيجية لتنفيذ الأحكام الإلهية