علم الاجتماع القرآني (12)..المنافقون والسنة النبوية
11 سبتمبر، 2023
443
ذكر الله تعالى أن من أهم معالم التي تبصرك بالمنافقين أنهم يخرقون أهم الحصون الأمنية للهوية الإسلامية بالصد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك يعني أنهم يصرون على أن يصدوا الناس عن التحاكم إلى السنة، ويمنعون قيام مؤسساتها، ويظهرون محاربة التطبيق النبوي للكتاب المبين، وهذه الصفة علامةٌ ظاهرةٌ، يُبَصِّرُنا بها قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61].
هلم إلى أعظم علامة ظاهرة لهم: إنها تشكيكهم في السنة النبوية، وصدهم عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم..
ما سر التعبير بقوله يصدون عنك فلم يقل يصدون عما أنزل الله؟
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61] لم يقل: يصدون عما أنزل الله.. لأنهم يتشدقون بأنهم يعرفون كتاب الله.. لكنهم يريدون تفسيره بأهوائهم، فيصدون عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وصدَّه عن الأمر يعني منعه، وصرفه، وردعه، وقريب من ذلك: صدّ من الشّخص ضجَّ وأعرض كما في قوله تعالى ذكره: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57]؛ لأنهم يريدون إثارة الضجيج للصد عن حقائق التوحيد.
فكلمة ﴿صُدُودًا﴾ تدل على أنهم يصرفون الناس عن التحاكم إلى السنة النبوية، ويمنعونهم، ويردعونهم.. فانظر كيف اختزلت هذه الكلمة مشاهد تصرفاتهم المختلفة في الحرب المسعورة التي يشنونها لمن يتحاكم إلى السنة النبوية، وأكد صدهم بقوله: ﴿صُدُودًا﴾؛ ليدخل فيه كل أنواع الصدود بما في ذلك إنشاء مؤسسات تشوه وتشوش السنة النبوية، والتطبيق النبوي للقرآن الكريم… أهؤلاء وقر الإيمان في قلوبهم؟ من أجل ذلك كان أعظم ما تميز به الأنصار رضاهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وإقبالهم عليه، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الأَنْصَارَ فَقَالَ: «أَفِيكُمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِكُمْ». فَقَالُوا لاَ إِلاَّ ابْنُ أُخْتٍ لَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ ابْنَ أُخْتِ القَوْمِ مِنْهُمْ». فَقَالَ «إِنَّ قُرَيْشًا حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَمُصِيبَةٍ، وَإِنِّى أَرَدْتُ أَنْ أَجْبُرَهُمْ وَأَتَأَلَّفَهُمْ. أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى بُيُوتِكُمْ؟ لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَ الأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ»[1].
﴿يَصُدُّونَ عَنْكَ﴾ من أجل ذلك يستبين المؤمنون الحقيقيون بمدى بحثهم عن التطبيق النبوي للقرآن الكريم وليس بمدى تفسير القرآن الكريم بأهوائهم وشهواتهم..
وبلغت حساسية الصحابة في تتبع أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفتها وتطبيقها حدًا تعلم منه لماذا كانوا الأعلى شأنًا في عالمهم، فعن ابن عباس قال: استوى النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة فقال للناس: اجلسوا فسمعه ابن مسعود وهو على باب المسجد فجلس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «تعال يا ابن مسعود» [2].
وتأمل في الآية، فأصل ﴿تَعَالَوْا﴾ المناداة لحضور نفعٍ اشتقت من مادة العلو كأن المنادي في علو والمنادى عليه أسفل، وقوله ﴿ عَنْكَ ﴾ يدل على شدة بغضهم للسنة، وطعنهم فيها، ولذا أكد ذلك بقوله ﴿ صُدُودا ﴾، كما أن هذا التأكيد له فائدة أخرى: أن صدودهم صار عظيمًا فيدخل فيه إعلانهم له، وتبجحهم بهذا الصدود.
وطلب الحضور الذي يظهر من خلال قوله تعالى جده: ﴿ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾ يدل على صورةٍ محسوسة لزيادة بيان ضلال هؤلاء في شرك الحاكمية؛ إذ يصورهم في مكان بعيدٍ ومنادي الرشد يناديهم ليتجشموا عناء مجاهدة أنفسهم، ويفارقوا أهواءها، ويحضروا إلى حيث الرشد الحقيقي، فيتركوا التحاكم إلى القوانين الأرضية الجائرة، ويتحاكموا إلى الشريعة الراشدة المطهرة.
ولذا روى الطبري السياق التاريخي الذي نزلت فيه هذه الآيات حيث كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فكان المنافق يدعو إلى اليهود؛ لأنه يعلم أنهم يقبلون الرشوة، وكان اليهودي يدعو إلى المسلمين؛ لأنه يعلم أنهم لا يقبلون الرشوة. فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهنٍ من جُهَيْنة، فأنزل الله فيه هذه الآية: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] حتى بلغ ﴿وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء:60- 65)[3].
وذكر أنه اختلف نفر من اليهود من قريظة والنضير ونفر من المنافقين، فأراد المنافقون التحاكم إلى كاهن يقال له أبو بردة، وقيل: بل اختار المنافقون التحاكم إلى كعب بن الأشرف، فقال اليهود: لا بل النبي صلى الله عليه وسلم يُنفِّر بيننا، فتعالوا إليه! فأبى المنافقون، وانطلقوا إلى أبي بردة فسألوه، فقال للمنافقين: أعظِموا اللُّقمة -يقول: أعظِموا الخَطَر- فقالوا: لك عشرة أوساق. قال: لا بل مئة وسْق، ديتي، فإني أخاف أن أنفِّر النضير فتقتلني قريظة، أو أنفِّر قريظة فتقتلني النضير! فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوساق، وأبى أن يحكم بينهم، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: { يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ } [النساء: 60] -وهو أبو بردة – ﴿ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ﴾ إلى قوله: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] [4]، وذكر ابن حجر أن الطبري روى بإسناد صحيح عن ابن عباس k أن حاكم اليهود يومئذ كان أبا برزة الأسلمي قبل أن يسلم ويصحب، وروى بإسناد آخر صحيح إلى مجاهد أنه كعب بن الأشرف [5].
ثم يظهرون الرجوع إلى الحق عند وقوعهم في الـمصائب، مع سرد الاعتذارات عن الخيانات السابقة، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62].
يقسمون الأيمان أن باعثهم على الصد عن حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم هو البحث عن مصالح الأمة والإنسانية والإحسان إليها، وعندما يعتذرون يعلنون أن مرادهم الإحسان والتوفيق أي المداراة والمصانعة لدفع إجرام المعتدين كما قال تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52] ، فيزعمون أن الصد عن السنة النبوية فعلٌ سياسيٌّ عبقريٌّ في ظنهم يوفقون به بينهم وبين القوى العالمية، ويستمدون به التوفيق من الله! كيف؟ بالصد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر للتلاعب.
والاستفهام في قوله ﴿ فَكَيْفَ ﴾ للتهويل العظيم، فهم لا يعاتبون أنفسهم ولا ينتقدون انحرافهم، ولا يراجعون القرارات الهامة في حياتهم، بل يكررون الأيمان المتعددة أن باعثهم على الصدود هو الإحسان والتوفيق، ويقع كثيرٌ من المنتسبين إلى الإسلام في شيء من هذه العلامة، ويزيد الأمر سوءًا أننا نظن عندما نقرأ هذه الآيات أنها تخص المنافقين، وأن المتدينين عنها بمنأى وحصن حصين، وأن الحركات الإسلامية معصومة من هذا التلاعب المهين، مع أن القرآن واضح كل الوضوح والأصل أنه يخاطب المنتسبين به قبل غيرهم.
والآية تتضمن تهديدًا مستقبليًا بأنه ستحدث لهم مصائب مستقبلية لا يجدون معها سبيلًا سوى اللجوء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومراجعة الحق، ولا بد منه في الخطاب الدعوي السياسي؛ وإلا كثرت صفوف هؤلاء المرضى بما يجدون من لين في غير محله.
#المجيدي
مفصل تفسير سورة النساء
[1] صحيح مسلم (3 / 106).
[2] المستدرك على الصحيحين للحاكم مع تعليقات الذهبي في التلخيص (1 / 420)، هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه تعليق الذهبي في التلخيص: على شرطهما.
[3] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 508).
[4] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 511).
[5] فتح الباري لابن حجر (5 / 37).