المقالات

(بروج مشيدة) كيف جمعت هاتان الكلمتان أوصافًا مدهشة؟

أ.د/ عبد السلام المجيدي

{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]

جمال الكلمة القرآنية (23)

جمعت هاتان الكلمتان: (بروج مشيدة) أوصافًا مدهشة تبرز معانيها من ورائها، فالبروج القصور والمنازل المحصنة الرفيعة، وهي مشيدة، أي: مطلية بالشِيد لتكون مشيَّدة، أي: محكمةً متراصةً من جهةٍ، ولتبدو مزينة مزخرفة من جهة أخرى، ولتكون مشيدة، أي: متطاولة، دلالة على رفاهية أصحابها، وعلى الرغم من أنك ترى الارتفاع الذي تنقطع الأنفاس في كلمة بروج إلا أن كلمة مشيدة في أحد معانيها أكسبتها ارتفاعًا جديدًا، فصارت مرتفعة ارتفاعًا مضاعفًا.

والمعنى: أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم مختبئين أو لاجئين أو مقيمين في بروجٍ عالية مرتفعة ارتفاعًا مضاعفًا تزينت للناظرين وأحكم بناؤها فلا يستطيع أحدٌ خرقَها أو كسرَها، أو زحزحتها.. لم ينقض سيل المعاني المدرار بعدُ، فلو تناولت هذه العبارة كاملةً {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] لوجدت تكملةً للصورة؛ إذ تضيف لك معنى آخر عند النظر إلى الجمع في قوله ﴿بُرُوجٍ﴾؛ فتبصرك بمعنيين يستتران خلفها:

فإما أن يكون المعنى: هناك بروجٌ متعددة تحمي واحدًا أو مجموعةً، وإما أن تدل على برجٍ يحمي كل واحدٍ، وهي تفتح عينيك على الغرور الذي يغشى أعين الغافلين من بني الإنسان عندما يهرب الأغنياء والأقوياء منهم يريدون الخلود في الحياة الدنيا، فإما أن يختبئ الواحد أو المجموعة منهم خلف بروجٍ مشيدة، أي: أنه يحتمي ببرجٍ وراء برجٍ وراء برج، ومؤسسةٍ محليةٍ وراء مؤسسة إقليمية، وراء مؤسسةٍ دولية، ويلوذ بمؤسساته المخابراتية وراء مؤسساته المالية وراء مؤسساته العسكرية وراء مؤسساته المعلوماتية وراء مؤسساته التشريعية القضائية الدولية.. إنها حصونٌ متعددةٌ متنوعةٌ يحتمي بها تدفعه إلى الغرور وإلى الزور وراء الغرور.. أيظن أنه محميٌّ من الموت -بعد كل هذه الحمايات المتعددة-؟

وكذلك يدل الجمع في قوله جل ذكره ﴿بُرُوجٍ﴾ على جمعٍ من الأقوياء الأغنياء قد اختبأ كلٌ منهم في برجه.. أفيظنون أن تعدد الأبراج تتعب ملك الموت أن يأتي كل واحدٍ منهم في مكمنه أو حصنه أو مأمنه.. فإن كانوا يتيقنون بالموت فما الذي يجعلهم يأبون المواجهة في موضعها؟ ما الذي يجعلهم لا يطبقون استراتيجية أخذ الحذر التي تقتضي الاشتباك في وقته المناسب؟ لأن ذلك يؤدي إلى الموت، فأينما يكونون يدركهم الموت ولو كانوا في بروجٍ مشيدة قد تنوعت إلى حمايات متعددة، وبما أن الموت لا بد منه فلينظر المرء أي الحياتين أبقى وأرقى وأصفى وأنقى.

#المجيدي

مفصل تفسير سورة النساء


الكلمات المفتاحية: جمال الكلمة القرآنية