المقالات

تذوق جمال الاتصال القرآني في الآيات (71- 103 من سورة النساء)

أ.د/ عبد السلام المجيدي

تؤسس سورة النساء نظاما متكاملا للعلاقات الإنسانية، مبنيا على التوازن بين السلم والحرب، والرحمة والعدل.

فقد جعل الله مدار العلاقات في الإسلام قائمًا على استراتيجية إلقاء السلم،

ومن خلال ذلك يمكن للبشرية أن تنال حقوقها، وتؤدى الأمانات إلى أهلها..

ثم بعد ذلك تناولت الآيات ما يلي:

☼☼☼☼

اتباع سياسة (أخذ الحذر)

    لتثبيت السلام في العالم لا بد من اتباع سياسة (أخذ الحذر) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71]

    وذلك لمنع الوحوش الضارية، والذئاب البشرية العادية من استغلال القوى الصالحة، وأكل حقوق العالم، وهذه الاستراتيجية تقتضي:

    ☼☼☼

    • الاستعداد العسكري لإحقاق العدل، وإنقاذ المستضعفين

     {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء: 75].

    ☼☼☼☼

    • منع الله من الجهاد في غير موضعه

    {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء: 77]

    • أحكام الدماء:

     أوجب حفظ دماء المسالمين سواء أكانوا مسلمين أم لا {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء: 90]

     وأهدر دماء المعتدين {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [النساء: 91] وبين حكم القتل الخطأ، والقتل العمد.

    ☼☼☼☼

    • القتل بالشبهة

    يبين حكم القتل بالشبهة؛ إذ وجه التوجيه الشديد، والـملام الأكيد لمن يجعل كلمة: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ مبررًا لاستباحة دماء الـمُؤْمنين والـمُؤَمَّنين بشبهة حربية أو غيرها، فقال:

    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94].

    ☼☼☼☼

    • فضيلة الـمجاهدين في سبيل الله {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95-96]

    ربما وقع في ذهن الإنسان أن ترك الجهاد خير من الـمضي فيه؛ لئلا يقع المرء في قتل الشبهة أو قتل الخطأ فضلًا عن قتل العمد، وإذا سلك الإنسان هذا التفكير تعطلت الإنسانية من وجود حماة لها تصد وحوش الذئاب البشرية العادية عن حفظها، وضمان أمنها،

    هنا تعيد لك آيات هذا القسم التوازن لتبين فضيلة الـمجاهدين في سبيل الله لا في سبيل أهوائهم ولا في سبيل نزواتهم ومغامراتهم، فرَّغب الله في الجهاد ترغيبًا عظيمًا لم تنله عبادة مماثلة، وذلك ليبين أن التشديد عليهم، وتحذيرهم بوضع الضوابط الصارمة عليهم في حفظ الدماء، لا يعني نزول درجتهم، ولا مكانتهم، ولا التشكيك في شريف عملهم، ولا جعلهم عرضة للهمز واللمز،

     بل إن حقيقة منزلتهم تقتضي أن يحققوا الاستقامة الصارمة على تلك الضوابط الأخلاقية حتى يستحقوا أن يكونوا مجاهدين،

     فالمجاهدون يحمون الحياة، ويجمعون الأمم حول كف اليد وإلقاء السلم، وليس العكس، فالإشادة بهم هنا بلغت أقصى مدى لبيان رفعة درجاتهم، ونرى هنا التوازن في الحديث بين السابق واللاحق.

    ☼☼☼☼

    • مكانة المهاجرين..  [النساء: 97-100]

    لما تقدم تعظيم مكانة الـمجاهدين القائمين على حراسة الجانب الأمني، والحفاظ على حقوق الـمستضعفين

    أراد جل جلاله أن يبين مكانة المهاجرين الذي يتركون ديارهم وأموالهم لينتقلوا من أرض الظلم والخوف والحرب إلى أرض العدل والأمن والسلام.

    ☼☼☼☼

    • المحافظة على الصلاة مهما كانت تغيرات الحياة [النساء: 101-103]

    بعد أن بين الله في القسم الثامن أن من مبادئ استراتيجية صنع الأمن المجتمعي، والسلام العالمي تعظيم مكانة المهاجرين في سبيل الله إلى أرضٍ تحفظ فيها الكرامة الإنسانية وفق النظام الإلهي

    ربما اعترى بعضهم سؤال حول سقوط الصلاة عنهم، وهم في حالة الهجرة التي تتضمن الخوف والكرب الشديد، ومثل ذلك الكلام عن حالة المواجهة العسكرية مع العدو المتربص، فهل تسقط الصلاة أم تثبت بكامل صفتها في ظل هذه الحالات الطارئة؟

     جاء هذا القسم تبيانًا لواجب المحافظة على الصلاة مهما كانت تغيرات الحياة، فالصلاة لا تسقط مهما كانت الحالات الطارئة كما في حالة استراتيجية أخذ الحذر، وحالة الهجرة، ولكنها تخفف لتتناسب إقامتها مع الحالة العارضة التي يمر بها الإنسان.. الصلاة روح الإنسان.. ويجد المصلون المقبلون على ربهم اللذة الفائقة في مناجاتهم الخاشعة، والله تعالى ذكره يعلمنا هنا الجمع بين الحالات الحيوية الطارئة وبين الصلاة، فلا يُلْغي أحدهما الآخر.

    تُقدم سورة النساء إطارًا متوازنًا للعلاقات الإنسانية، مبنيًا على مبادئ السلام والعدل والرحمة. ويُشكل المحور الرابع من السورة جوهر هذا الإطار، مُحددًا استراتيجيات التعامل مع مختلف المواقف، من إلقاء السلم إلى الجهاد وحفظ الدماء.


    الكلمات المفتاحية: #فَتَبَيَّنُوا تذوق جمال الاتصال القرآني في الآيات (71- 103 من سورة النساء)