ثلاثية الرد القرآني على الشبهات
16 يناير، 2023
347
{وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5]
عندما تنظر إلى القرآن فسوف تجد اللفظ القرآني رغم قلَّة حروفه إلا أنه مكنوز بالمعاني الكثيرة فعندما تناول القرآن شبهة عظيمة بالنسبة لمقام الربوبية خصَّها بالإنذار، فقال: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًاا}، فربما تساءلت كيف بنى القرآن الرد عليها؟
لقد تمثل الرد في ثلاث جمل:
1) {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ}.
2) {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}.
3) {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}.
هكذا رد القرآن والآن تعال للنظر فيها:
1) أولا- قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ}:
بدأ القرآن ببيان المصدر المعرفي لهذه الشبهة والمقولة فنفى عنها أيَّ صفة من العلم.
والبناء الأساسي من حيث الدلالة للجملة تكوَّن من أداة النفي {ما}، وتأكيد عموم النفي بـ{من}، ولكنك ستجد أنه بنى الألفاظ بإحكام مدهشٍ، فعندما تنطق بقوله: { مَا لَهُمْ } يجعلك القرآن تتعجب وأنت تكرر اللفظ {مَا لَهُمْ}، وهذا أسلوب ما زالت بعض القبائل والمناطق تستخدمه إلى يومنا فيقولون: (ما لك؟) و(ما له؟)، وكأنك تقول ماذا أصابك؟ فماذا أصاب القائلين بهذا القول؟ لعلهم قد أصيبوا بالجنون، وكما أنك تستخدم هذا التعبير عند الغضب والاستعداد للعِراك فكذلك القرآن يجعلك في ذلك الموقف الغاضب المتأهب.
فإذا علمت أن هذه الجملة تُعرب حالًا، علمت أن هذا اللفظ يبيِّن الحالة الجاهلة حتى عند قول اللفظ، فكأنه ينفي أيَّ نوع من التفكير حتى أثناء النطق بهذه المقولة.
وبعد نفي العلم يبقى أنهم بنوا قولهم ربما على جهل أو سبب لا يُعَدُّ علمًا كالظنِّ والوهم.
ويظهر أنه نفي للعلم العقلي والنقلي فإن النقل لا يُعَدُّ علمًا حتى يكون مصدره صحيحًا، فإن قيل: سمعوا هذا من آبائهم، فيقال لهم وآباؤكم “ما لهم به من علم”.
وتلاحظ أنه تعالى قال: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}، ولم يقل وينذر الكافرين الذين قالوا… وكذلك قال {ما لهم} ولم يقل ما للكافرين فلماذا هذا؟
قال الآلوسي: “وترك- سبحانه- إجراء الموصول على الموصوف هنا، حيث لم يقل وينذر الكافرين الذين قالوا.. كما قال في شأن المؤمنين: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ} [الكهف: 2]؛ للإيذان بكفاية ما في حيز الصلة في الكفر على أقبح الوجوه.
نعم، إن لفظ الكفر قليل عليهم.
2) ثانيًا- قوله تعالى{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}.
وتكوَّن هذا الردُّ من جزأين: 1) { كَبُرَتْ كَلِمَةً }. 2) “{ تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ }.
فأما قوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً} فهذه الصيغة تجمع بين الإمتاع والإبداع، فإنها إنشائية تفيد التعجُّب، أي: ما أكبرها من كلمة، كأن الجملة السابقة كانت في مرحلة الاندهاش، ثم بعده يعتري الإنسان التعجب، وفعل (كبُر) في الأصل يوصف به الجسم الضخم، تقول: هذا جبل كبير، ويستعمل مجازًا في الشدة، والقوة فتقول: صبر كبير على سبيل الاستعارة، وبقرينة المقام فإن القرآن استخدمها هنا في التعجب من كبر هذه الكلمة في الشناعة.
وقد تقول فما الذي يدلُّ على أنها تفيد التعجب؟
يقول الطاهر: “دلَّ على قصد التعجيب منها انتصاب { كَلِمَةً ٗ} على التمييز؛ إذ لا يحتمل التمييز هنا معنى غير أنه تمييز نسبة التعجيب، ومن أجل هذا مثَّلوا بهذه الآية لورود (فَعُلَ) الأصلي والمحوَّل لمعنى المدح والذم في معنى نعم وبئس بحسب المقام”.
وقوله:{مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} من باب زيادة الإنكار عليهم، كأنه يقول كيف خرجت هذه الكلمة من أفواههم! كما تقول لشخص سمعت منه كلمة شنيعة: كيف أخرجتها من فمك!
فـقوله تعالى: {مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} صفة للكلمة تفيد استعظامًا لاجترائهم على النطق بها، وإخراجها من أفواههم، فإن كثيرًا مما يوسوسه الشيطان في قلوب الناس ويحدثون أنفسهم به من المنكرات، لا يتمالكون أن يتفوَّهوا به، ويطلقوا به ألسنتهم، بل يكظمون عليه استعظامًا من إظهاره، فكيف بهذا المنكر؟!
3) ثالثًا- قوله تعالى: {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}:
ينطلق بك القرآن لتتخذ موقفًا بناء على السابق فتعلن تكذيبهم {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}، لم يبق لهم موقف يبرِّر لهم مقولتهم وليس أمام السامع لذلك إلا أن تتواتر مشاعره وكلماته ومواقفه على إعلان النتيجة {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}، أي: ما يقولون إلا كذبًا وسفهًا وزورًا.
فأصحاب هذه المقولة ليس لهم ولا لأسلافهم علم ثابت بهذا القول الذي افتروه، وهو قولهم أن الله اتخذ ولدًا، وإنما هو صادر عن جهل مفرط، وتقليد للآباء، ومِنْ تسويل الشيطان وتزيينه.
وانتفاء العلم بالشيء: إما للجهل بالطريق الموصل إليه، وإما لأنه في نفسه محال لا يصلح محلًا للعلم به.
وقد عظمت تلك الكلمة التي ينطقون بها، ويخرجونها من أفواههم متجرِّئين على النطق بها، وهي كلمة الكفر، فليس لها مستند سوى قولهم، ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم، فما يقولون إلا مجرد الكذب والزور، ولا حقيقة له أصلًا.
تأمَّل هذا الجمال القرآني في الردِّ الهادئ العميق لتجد أن القرآن يجيب عن الشبهة المتداولة، ولا يسكت عنها، ولو كانت باطلة وساقطة، وتجد البناء المحكم للرد ليجتمع العقل والقلب ولتتحد العاطفة والمعرفة في مواجهة هذه الشبه الخطيرة على العقيدة والحياة.
فقد بيَّن الله تعالى حالهم، وفضح جهلهم، ثم بيَّن خطورة قولهم، ثم اتخذ الموقف العلمي والإعلامي فأذاع بيان الكذب على مقولتهم.
إن الرد المحكم ينبغي أن يبنى على ثلاث مراحل:
1) مناقشة مصادر المعرفة.
2) بيان بشاعة تلك الشبهة أو الجهالة.
3) إعلان النتيجة وإعلام الخليقة.