جمال الكلمة القرآنية (14)
7 مايو، 2023
362
كيف تبصرنا كلمة (قليلا) في قوله تعالى (فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (النساء:44-46) بمعلومات هامة في بناء العلاقات الدولية؟
إن المسلم حين يتعامل مع العالم من حوله أو مع أعدائه يرشده القرآن بالبصائر التي تجعله على صراط مستقيم فالقرآن يوجب إنصاف المخلفين، والتواصل مع الصالحين منهم، وحوارهم بالتي هي أحسن، ويُبَصِّرُنا بذلك قول الله جل شأنه: ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (النساء:46).
فهذا توصيفٌ واقعيٌ معجزٌ يدل على بناء القرآن العقلية المسلمة على الدقة في نقل الأخبار، والإنصاف في توصيف الأحداث والوقائع بما لم يكن معهودًا عند الأمم المعاصرة، فقد ضمت هذه الجملة الكلام عن حالتين من أحوالهم:
الحالة الأولى: من يؤمن منهم الإيمان الحق قليل، وتكون كلمة ﴿ قَلِيلًا ﴾ صفة لموصوف محذوف، والتقدير فلا يؤمنون إلا قومًا قليلًا، فقد قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو آمن بي عشرة من أحبار اليهود لآمن بي كل يهودي على وجه الأرض» [1].
الحالة الثانية: أنهم لا يؤمنون إلا بالقليل مما في التوراة، فتكون كلمة ﴿قَلِيلًا﴾ صفة للإيمان.. فهم يظلون يتشبثون بيهوديتهم لكن على سبيل الادعاء وحب التميز والتعصب، وعلى الرغم من هذه الدعوى فقد يفتخر بعضهم بالإلحاد لكنه يتشبث باليهودية ابتغاء المتاع الدنيوي الذي يوفره الادعاء العنصري، وهذا من أعجب التلاعب، فيزعمون أن الإلحاد الذي يمارس من قبل بعض اليهود لا يعني أنه يناقض اليهودية؛ لأن النسب يكفل توفير ميزات اليهودية، ثم ليلعب الواحد منهم بدينه كيف شاء.
فالوعي الذي يكونه قول الله جل شأنه: ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ أن المؤمنين منهم بالكتاب كله قليل، وأن الأكثرين آمنوا ولكن بالقليل من الكتاب مما يوافق أهواءهم ورغباتهم. واعجب إن كنت عاجبًا للإعجاز الإخباري الذي تضمنته هذه الآية، فقد دخل الناس في دين الله أفواجًا إلا اليهود الذين لا يؤمنون إلا قليلا، كما أن هذه الآية تبين أن من يدخل منهم في الإيمان بالكتاب كله في غاية القلة حتى لا يطمع أحد في غير مطمع، وننساق وراء الأوهام، بل ذهب بعض المفسرين إلى أن المعنى ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَبَدًا فَهُوَ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ، وَأُطْلِقَ القِلَّةُ عَلَى العَدَمِ. وَفُسِّرَ بِهِ قَوْلُ تَأَبَّطَ شَرًّا:
قَلِيلُ التَّشَـكِّي لِلْمُهِمِّ يُصِـيبُهُ
كَثِيرُ الهَوَى شَتَّى النَّوَى وَالمَسَالِكِ [2]
ولا أميل لذلك، بل إن الممدوح هنا قليل التشكي وليس معدومًا تشكيه، فالظاهر وجود الإيمان بالكتاب كله فيهم ولكن من قلة منهم لا تكاد تذكر في زخم جموعهم، وكثرة مكرهم، وشدة كفرهم، على أن الإيمان وفق أهوائهم موجود منتشر، فهم من أكثر الشعوب تدينًا، وحسبك اسم إسرائيل عليه السلام علمًا لدولتهم.
[1] أحمد (2 / 346).
[2] التحرير والتنوير5/77.