جمال الكلمة القرآنية (20)
4 يوليو، 2023
374
المثل الناري
جمال الكلمة القرآنية (20)
المثل الناري
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 17، 18]
الأمثال القرآنية أنموذجٌ للتفوق البياني، فهي تصل إلى الذروة في تصوير المعاني في صورة المشاهد المجسدة، وتنقل الأحداث المدهشة؛ لتقرب المفاهيم العظيمة في حياة البشرية
وكثيراً ما تكون الأمثال القرآنية قائمة على تشبيه التمثيل تشبيهاً لحالةٍ مركبة بحالةٍ مركبة، فقوله {مثلهم كمثل} أدخل الكاف على كلمة مثل كأنه يقول: يشبه حالهم حال مجموع الصورة التي سنخبركم بها
ومن ذلك ما ضربه الله تعالى من مثل عن الخُلَّص من كَذَبة زاعمي الإيمان، وقد ضرب الله لهم المثل الناري [البقرة:17-18] وقد تتساءل:
ما المشاهد التي تبصِّرنا بها هاتان الآيتان حول الصِّنف الأوَّل (الفريق الصُّلب الخالص في نفاقه)؟
الجواب: تبصِّرنا هاتان الآيتان بـ (9) مشاهد، وهي:
مشهد [1] ظهور قائد المنافقين
تبصِّرنا كلمة ﴿الذي﴾ من قوله تعالى ذكره: ﴿مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا﴾ [البقرة: ١٧] بأن أحد المنافقين كان نشطًا ذا صفات قياديَّة، وطلب أن يكون له دور في الأرض، فأوقد نارًا ينشر من خلالها نورًا له يجمع الأتباع من حوله، وبدأ بأقوى المؤثِّرين، فكوَّن معهم قيادة مشتركة هو أعلاهم فيها.
فالسين والتاء يدلَّان على الطلب، والانتقال من الإفراد ﴿ٱلَّذِي، حَوۡلَهُۥ﴾ إلى الجمع في قوله: ﴿بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ﴾ دلَّنا على أثر نشاط هذا القيادي في محيطه.
مشهد [2]: قائد النِّفاق يمتلك المهارات القياديَّة الفذَّة للتَّأثير على من حوله
فقوله: ﴿مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا﴾ يبصِّرنا بأن انتشار النفاق بدأ بمنافق صُلب، خالص في نفاقه، عنده روح المبادرة، وصفات القيادة طلب إيقاد النار وبعث النور حتى يضيء ما حوله ليحقِّق إنجازًا في حياته، لكنه يوجِّه طاقته نحو الجانب المظلم المجرم من خلال الكذب بأنه يوقد نارًا.
مشهد [3]: ﴿فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ﴾ الثوب مسلم، والفعل كالقلب مجرم
فيبصرنا قول الله تعالى: ﴿ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ﴾ بأن الذي استوقد كان قياديًّا فريدًا في عقليته، وجمع آخرين حوله، لكنه أسرَّ المعصية كإسرار إبليس ثم أظهرها، فذهب الله U (بنورهم)، أي: بنور الجميع، القيادي والأتباع، ولم يقل بنوره وحده، وذهابه إمَّا ذهاب نور الإيمان والقرآن، وإما ذهاب نور النَّصر والنَّجاح الحياتي.. لماذا ذهب الله U بنورهم؟ لخلل ظاهر، أو مستتر في المستوقد وأتباعه.
مشهد [4]: النفاق الخفي يكشفه جواب ﴿لـمَّا﴾ الخفي
فيحتمل أن يكون جواب ﴿لما﴾ في قوله: ﴿فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ﴾ [البقرة ١٧] ظاهرًا مذكورًا، كما يحتمل أن يكون محذوفًا، كأنه قيل: فلما أضاءت ما حوله عمل الشقي قائد المنافقين على محاصرة النور وإيقافه، والتَّلاعب به، وتابعه على ذلك أتباعه، وهنا يأتيك ما بعد الجواب ليدلَّ على الجواب المحذوف، وهو قوله: ﴿ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِم﴾.
مشهد [5]: ملء الفراغ بالظُّلمات، ويبصِّرنا بذلك قوله: ﴿وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ﴾
مشهد [6]: مشهد البصر المفقود ﴿لَا يُبْصِرُونَ﴾
هذا هو الوصف الواقعي الثَّالث لحالهم، فلم يذهب الله U بنورهم فقط، ولم يتركهم في ظلمات فقط، بل هم لا يبصرون أيضًا.
مشهد [7]: ذهاب النو،ر وحلول الظلمة، وعدم الإبصار تمتدُّ من الدنيا إلى الآخرة
فيبصرنا الله U بقوله: ﴿ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ﴾ ﴿وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ﴾ ﴿لَّا يُبۡصِرُونَ﴾ [البقرة: ١٧] بأن ذهاب النُّور، وغشيان الظُّلمات، وعدم الإبصار صارت حالات ملازمة في الدنيا والآخرة:
مشهد [8]: الإصرار على الدَّمار وعدم التَّراجع عنه:
فيبصرنا قوله تعالى: ﴿صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ﴾ [البقرة ١٨] بأن المنافقين الخُلَّص متشبعون بفساد القلب، وغرور النفس، فهم في نفاقهم (صمٌّ) عن سماع الإرشاد، (بُكْمٌ) عن قول الخير، (عُمْيٌ) عن رؤية النور، والنتيجة: أنهم ﴿لَا يَرۡجِعُونَ﴾ إلى حالهم عندما استوقدوا نورًا، فقد أذهب الله U نور المعرفة القرآنية منهم.
مشهد [9]: الاستماتة في نشر ظلمات الكفر، والفسق، والفساد ﴿فَهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ﴾
فهؤلاء المنافقون يصرُّون على ألَّا يرجعوا إلى أدنى خير مما أعلنوه عندما قالوا: آمنا، فقد اعتنقوا النِّفاق لا ليدفعوا عن أنفسهم القتل، بل لينفِّذوا أقسى المؤامرات وأقصاها وأخبثها مما لا يستطيعه أقوى المتآمرين من الكفَّار ضدَّ الإسلام والمسلمين.
أ.د/ عبد السلام المجيدي
وسيط تفسير سورة البقرة
[Fi1]المردة من كَذَبة زاعمي الإيمان [Fi1] أو الماردون على النفاق أو مردة النفاق…مردة المنافقين “مردوا على النفاق” أفضل من وصفهم بالخلص…