المقالات

لماذا لم يحدد الله تعالى الجهة التي يأكل منها ولي اليتيم عند فقره، في قوله: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]؟

أ.د/ عبد السلام المجيدي

جمال الكلمة القرآنية 4

إذا نظرت في الآية ترى أن الله ذكر جواز الأكل لولي اليتيم الفقير بقوله {فَلْيَأْكُلْ} لكن دون أن يحدد الجهة التي يأكل منها المال، فلم يقل “فليأكل من جهة كذا” بل قال: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}، وعدم التحديد يجعلنا نفترض أن يأكل من الجهات التي يجب عليها رعاية الأيتام سواء أكانت جهات حكومية أم أهلية، فتبادر الحكومة والمجتمع المدني إلى إنشاء مؤسسات خاصة ترعى الأيتام، وتفرض المكافئات على رعايتهم، وفي حال عدم وجودها، فيجوز أن يأكل الوصي الفقير من مال اليتيم بقدرٍ.

بيت المال العام هو الجهة التي تقوم على إعطاء الأوصياء مكافأة مناسبة مقابل الرعاية:

الأصل أن الذي يمنح المكافأة مقابل رعاية الطفل واليتيم هو بيت المال العام (مثل وزارة المالية، ووزارة الخزانة، والمصرف المركزي، والمؤسسات القضائية)، ويبصرك بذلك القاعدة الدستورية العظيمة التي قال عنها النبي: «أَنَا أَوْلَى بِالـمؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنَ الـمؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا، فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا، فَلِوَرَثَتِهِ»، وفي رواية: «وَمَنْ تَرَكَ كَلًا، فَإِلَيْنَا»، وفي رواية: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلاَّ وَأَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [الأحزاب: 6]، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا، فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا، أَوْ ضَيَاعًا، فَلْيَأْتِنِي، فَأَنَا مَوْلاَهُ» [1].

ولكن الآية تحدثك عن واقعٍ لا يكون فيه بيت المال العام متوفرًا لفعل ذلك أو لا يكون قادرًا على فعل ذلك.

وقد كثرت أقوال أهل العلم حول ما يأخذه الوصي من اليتيم فكيف يمكن أن نستثمر تلك الأقوال؟

يظهر لي هنا ضرورة أن نُعمِلَ جميعَ أقوال أهل العلم فيما يأخذه الوصي من اليتيم لرعايته، وذلك يختلف حسب الحالات المختلفة:

فالحالة الأولى: أن يكون مال اليتيم محدودًا غير مستثمرٍ استثمارًا ناجحًا، والوصي فقيرٌ محتاج، ولا يستطيع الجمع بين عملٍ يُدِرُّ عليه رزقًا وبين رعاية اليتيم، فنُعمِلُ هنا قول الفقهاء الذين رأوا أن ما يأخذه الوصي إنما يكون قَرْضًا يَأْخُذُهُ بِنِيَّةِ الوَفَاءِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ.. زاد سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَإِنْ حَضَرَهُ المَوْتُ، وَلَمْ يُوسِرْ يَتَحَلَّلُهُ مِنَ اليَتِيمِ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا يَتَحَلَّلُهُ مِنْ وَلِيِّهِ -أي الذي بعده-.

الحالة الثانية: أن يكون مال اليتيم محدودًا، والوصي فقير، ولا يظن نفسه يحدث له الإيسار، فعند ذلك يتناول أقل الكفاية، وعبر الشَّعْبِيّ عن ذلك فقال: لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إِلَيْهِ كَمَا يُضْطَرُّ إِلَى المَيْتَةِ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ شَيْئًا قَضَاهُ. وبالغوا في التنبيه إلى هذا حتى قال ابْن عَبَّاسٍ: يَأْكُلُ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ، وَوَضَّحَهُ السُّدِّيُّ، فَقَالَ: يَأْكُلُ مَعَهُ بِأَصَابِعِهِ لَا يُسْرِفُ فِي الأَكْلِ، وَلَا يَلْبَسُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الأَكْلُ بِالمَعْرُوفِ: هُوَ مَا سَدَّ الجَوْعَةَ وَوَارَى العَوْرَةَ.

ولكنك ترى أن هذا الذي ذكروه مبنيٌّ على المبالغة في حماية اليتيم ويظهر لي رجحانه في هذه الحالة.

الحالة الثالثة: أن يكون مال اليتيم كثيرًا كثرة ظاهرة، فيجوز أن يأخذ منه ما يكفيه بالمعروف الذي تحدده له الجهات المختصة، أو العدول المؤتمنون، وخاصة في زماننا الذي تزداد فيه متطلبات تربية الأطفال، فلا يكتفي الوصي بأن يأخذ ما يستر عورته فقط، وإنما يأخذ ما يظهر زينته من غير سرف، ولا يكتفي بأن يأخذ ما يسد الجوعة بل ما يقيم الصلب إلا أن ذلك يختلف حسب اختلاف التركة، والعرف بين الناس، ولكن اليتيم إذا كان غنيًا غنى ظاهرًا، فإنه يزاد للوصي حسب ما يحكم به ذوو عدل أو الهيئة القضائية المختصة.

الحالة الرابعة: أن يكون مال اليتيم ناميًا مستثمرًا، فيأخذ الولي مكافأته بأن يكون مِنْ غَلَّةِ المَالِ كَلَبَنِ المَاشِيَةِ، وَصُوفِهَا، وَثَمَرَاتِ الشَّجَرِ، وَغَلَّةِ الزَّرْعِ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْ رَقَبَةِ أي من أصله شَيْئًا.

ويظهر أنه لا بد أن يحدد للوصي الفقير ما يقابل قيامه على اليتيم، فيشهد العدول المعتبرون بأنه يستحق مقدارًا يناسب حالته وحالة يتيمه على ألا يفيض من المال الذي يأخذه شيئًا يدخره خارج احتياجاته الأساسية، ولخص الطبري ذلك تلخيصًا بديعًا فقطع بقوله قول كل خطيب، فقال: «إِنَّ الأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ مَالَ اليَتِيمِ لَيْسَ مَالًا لِلْوَلِيِّ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ شَيْئًا، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْهُ عِنْدَ الحَاجَةِ كَمَا يَسْتَقْرِضُ لَهُ، وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ لِلْيَتِيمِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ إِذَا كَانَ اليَتِيمُ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ، كَمَا يَسْتَأْجِرُ لَهُ غَيْرَهُ مِنَ الأُجَرَاءِ غَيْرَ مَخْصُوصٍ بِهَا حَالُ غِنًى وَلَا حَالُ فَقْرٍ» [2].

وهذا التوجيه القرآني يحمل التدقيق القانوني الحقوقي الفائق، وفيه إشارةٌ واضحةٌ لكل القائمين على التطوعات وأعمال البر والخير والجمعيات الخيرية، فدل هذا على جواز أن يكون للوصي الفقير راتبٌ محددٌ.

وفي قَوْله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] ترهيبٌ شديد لمن يأكل أموال اليتامى، لكنه قيد الأكل بكلمة ﴿ظُلْمًا﴾، وهذا التقييد تأسيسيٌ يدل عَلَى أَنَّ مَالَ اليَتِيمِ قَدْ يُؤْكَلُ ظُلْمًا وَغَيْرَ ظُلْمٍ، فالوصي المحتاج لا يأكله ظلمًا ما دام يأكل بالضوابط السابقة، وفي السنة بيان تفصيلي للمقدار الذي يأكله الولي بالمعروف، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ليس لي مالٌ ولي يتيم. فقال: «كل من مال يتيمك غير مسرفٍ، ولا مبذرٍ، ولا متأثل مالا، ومن غير أن تقي مالك -أو قال- تفدي مالك بماله» [3]، ومن التصرفات أداء الزكاة، فعن ابن أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: كَانَ أَقْطَعَ أَبَا رَافِعٍ أَرْضًا، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو رَافِعٍ بَاعَهَا عُمَرُ بِثَمَانِينَ أَلْفًا، فَدَفَعَهَا إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ  فَكَانَ يُزَكِّيهَا، فَلَمَّا قَبَضَهَا وَلَدُ أَبِي رَافِعٍ عَدُّوا مَالَهُمْ فَوَجَدُوهُ نَاقِصًا، فَأَتَوْا عَلِيًّا فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ: أَحَسِبْتُمْ زَكَاتَهَا؟ قَالُوا: لاَ. قَالَ: فَحَسَبُوا زَكَاتَهَا فَوَجَدُوهَا سَوَاءً فَقَالَ عَلِيٌّ: أَكُنْتُمْ تَرَوْنَ يَكُونُ عِنْدِي مَالٌ لاَ أُؤَدِّي زَكَاتَهُ؟، وكان ابْن عُمَرَ عِنْدَهُ مَالُ يَتِيمٍ فَكَانَ يَسْتَقْرِضُ مِنْهُ، وَرُبَّمَا ضَمِنَهُ وَكَانَ يُزَكِّي مَالَ اليَتِيمِ إِذَا وَلِيَهُ [4] أي أنه لا ينبغي للإنسان أن يستقرض من مال اليتيم إلا إذا غلب ظنه أنه سيسدده وإلا فلا يعرض مال اليتيم للهلاك.


[1] البخاري (3 / 128).

[2] الطبري7/594.

[3] أحمد(2 / 215) وقال الأرناؤوط: إسناده حس.

[4] سنن الدارقطني (3 / 7).


الكلمات المفتاحية: المجيدي بصائر سورة النساء يتامى