المقالات

جنايات بحق البشرية (4)

أ.د/ عبد السلام المجيدي

من أعظم جنايات أهل الضلالة والإضلال في التعدي على حقوق أنفسهم وعلى سائر البشرية

بعد أن عرَّف الله جل جلاله البشرية بالجنس القيادي الذي يمنع الحقوق الإنسانية، وجعل أهم أهدافه في الحياة أن يشتري الضلالة ويعمل على إضلال العالم، فضح هنا بعض جناياتهم الكبرى التي اقترفتها قياداتهم العلمية والسياسية في حق أنفسهم والعالـم (في الآيات:47-57، من سورة النساء)، ومنها:

الجناية الرابعة: قلب الحقائق بالتزكية الـمطلقة لأنفسهم، واستخدام الإعلام الـمحلي والعالـمي لإثبات ذلك.

 ويُبَصِّرُنا بذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء: 49].

وكلمة يزكي معناها هنا: يُظْهِرُ نفسه خالصًا من الرذائل، مملوءًا بالفضائل، والتزكية هنا ليس المراد طلب إيجاد زكاة النفس؛ إذ هذا معنى مطلوب، فقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِى تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لاَ يُسْتَجَابُ لَهَا» [1].

وإذا كانت تزكية النفس مطلوبة، فما المراد بالتزكية المنهي عنها هنا؟

المراد بها هنا نسبة كل خيرٍ وفضلٍ للنفس.. يراد أن يزعم صاحبها أنه قد طُهِّرت حياته من الرذائل، ومُلئ بالفضائل..

فتجد الله تعالى ذكره يُعَجِّبُ عبادَه من حالهم بكلمة ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ كأنه يقول:

انظر إلى هؤلاء الناس الذين يكثرون الدعاوى العريضة والافتراءات، فيدَّعون أنهم هم أصحاب الحق والاعتدال والعدل ورسل الرحمة وأساس الاستقامة في العالم، وينسبون لأنفسهم كل خير، ويعطون لأنفسهم حق توزيع الألقاب وتزكية الفئات، والله سبحانه يبين جناية هؤلاء المدعين على العالم ويفضحهم.. فالآية تتكلم عمن زعم أنه زكي النفس.. فمن يدخل فيها -أيدك الله-؟

يدخل فيها كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله [2]، وأولهم من جاء ذكرهم في السياق، وهم المنحرفون من الذين أوتوا الكتاب، فإن بعض اليهود كانوا يقولون: «إنا نعلم أبناءنا التوراة صغارًا، فلا تكون لهم ذنوب، وذنوبنا مثل ذنوب أبنائنا، ما عملنا بالنهار كُفَّر عنا بالليل» [3]، ومن تزكيتهم لأنفسهم أنهم يقولون مبينين محدودية الضرر الذي سيصيبهم مع عظم الجرائم التي يمارسونها: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } [البقرة: 80]، ويقولون: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111] ، ويزكون أنفسهم بما لم يعملوه من الأعمال الصالحة {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران: 188].

ويدخل فيها ثانيًا: كل من كان مثلهم، وادعى دعواهم.. أفتحسب أن المسلمين في منأى عن سبيلهم في النتائج إذا اتبعوا حذوهم في المقدمات؟ كيف يزكي بعض المسلمين أنفسهم بأنهم من خير أمة أخرجت للناس بينما هم يبعدون عن مناهجهم أحسن حديث أنزل للناس؟ كيف يزعمون انتسابهم لخير الأنبياء، ومحبتهم له، وهم يحاربون منهجه في حياتهم؟ كيف يزعمون الدعوة إلى الإسلام وهم أسوأ دعاية منفرة عنه؟

فهذه صفةٌ تَعُمُّ أهلَ الكتب الثلاثة، فتجد الله تعالى ذكره يُعَجِّبُ عبادَه من حالهم بكلمة ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ كأنه يقول: انظر إلى هؤلاء الناس الذين يكثرون الدعاوى العريضة والافتراءات، فيدَّعون أنهم هم أصحاب الحق والاعتدال والعدل ورسل الرحمة وأساس الاستقامة في العالم، وينسبون لأنفسهم كل خير، ويعطون لأنفسهم حق توزيع الألقاب وتزكية الفئات، والله سبحانه يبين جناية هؤلاء المدعين على العالم ويفضحهم فهؤلاء كما وصفوا في الحديث المرفوع الذي رواه الترمذي بسند فيه ضعف، ورواه الدارمي بسند صحيح موقوفًا على معاذ بن جبل قال: (سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت يقرؤونه لا يجدون له شهوة ولا لذة يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب أعمالهم طمع لا يخالطه خوف إن قصروا قالوا: سنبلغ وإن أساؤوا قالوا: سيغفر لنا إنا لا نشرك بالله شيئًا)، وكذا رواه بسند صحيح موقوفًا على كعب قال: (إني لأجد نعت قوم يتعلمون بغير العمل ويتفقهون لغير العبادة ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة ويلبسون جلود الضآن وقلوبهم أمر من الصبر فبي يغترون أو إياي يخادعون فحلفت بي لأتيحن لهم فتنة تترك الحليم فيها حيرانًا).

ومن هنا يستبين لك المناسبة والاتصال بين هذه الآية وما قبلها؛ فإن بعض من يشرك بالله يزكي نفسه، ويظن أنه بذلك سيد المهتدين، فجاءت هذه الآية تفصل حاله، وتفضح خياله، ولكنها صيغت على هيئة الاستقلال ليدخل فيها كل مزَكٍّ نفسه بغير حق، فدخل فيها الذين يصمون الآذان، ويملؤون سطور الصحف بمدح أنفسهم من المسلمين أيضًا، وقد جاء التحذير من المدح في غير مكانه لأنه يتضمن تزكية للذات أو للآخرين بغير حق، ويحذرنا ابن مسعود من وقوع المسلمين في هذا الفخ الشيطاني، فعن طارق بن شهاب قال: قال عبد الله بن مسعود: إن الرجل ليغدو بدينه، ثم يرجع وما معه منه شيء! يلقى الرجل ليس يملك له نفعًا ولا ضرًا، فيقول: «والله إنك لذَيْتَ وذَيْتَ»، ولعله أن يرجع ولم يَحْلَ من حاجته بشيء، وقد أسخط الله عليه. ثم قرأ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ [4]، وعَنْ أَبِي مُوسَى، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي مَدْحِهِ فَقَالَ: أَهْلَكْتُمْ، أَوْ قَطَعْتُمْ – ظَهْرَ الرَّجُلِ [5]، وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ قَطَعْتَ عُنَقَ صَاحِبِكَ مِرَارًا ثُمَّ قَالَ: – مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلاَنًا وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلاَ أُزَكِّي عَلَى اللهِ أَحَدًا أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ [6].

وعَنْ هَمَّامِ بْنِ الحَارِثِ أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ يَمْدَحُ عُثْمَانَ فَعَمِدَ المِقْدَادُ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ – وَكَانَ رَجُلًا ضَخْمًا – فَجَعَلَ يَحْثُو فِي وَجْهِهِ الحَصْبَاءَ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: مَا شَأْنُكَ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ المَدَّاحِينَ فَاحْثُوا في وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ» [7].

وروى أحمد عن عمر بن الخطاب: من قال: أنا مؤمن فهو كافر. ومن قال: هو عالم، فهو جاهل. ومن قال: هو في الجنة فهو في النار. ورواه ابن مردويه عنه أنه قال: إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه، فمن قال إنه مؤمن فهو كافر، ومن قال هو عالم فهو جاهل، ومن قال هو في الجنة فهو في النار.

وربما تسأل هنا: لماذا قال:

 ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ ولم يقل:

ألم تر إلى اليهود أو إلى أهل الكتاب الذين يزكون أنفسهم؟

والجواب: واضح لأن الله يربي المسلمين على اتقاء ما وقع فيه غيرهم من الإجرام والفجور، فيدخل في سنة التزكية كل من زكى نفسه، ولو انتسب إلى الإسلام، فسنة التزكية جارية على المسلمين كما جرت على غيرهم، وفي ذلك تأنيب شديد للمسلمين؛ إذ حتام يبقون في زعمهم أنهم المسلمون، وهم لا يقيمون الدين كما شرعه الله.. إن تزكية النفس لا تغني من الحق شيئًا سواء أكانت صادرة من أهل الكتاب أم من المسلمين؟ وكم ترى من يسمى نفسه أهل الحق، أو أهل العدل، أو ناصر المستضعفين، أو معز أهل الدين، أو القائم على ولاية أهل البيت، أو الحامي لحاكمية الشريعة وهو أضل الضالين، وأشد الخلق قسوة بين العالمين.

أ.د/ عبد السلام المجيدي

مفصل تفسير سورة النساء


[1] صحيح مسلم (8 / 81) برقم 7081.

[2] الكشاف  للزمخشري (1/ 552).

[3] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 453).

[4] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 455).

[5] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (3 / 231)

[6] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (3 / 231)

[7] صحيح مسلم (8 / 228).