علم اتصال النظم القرآني يكشف المفاجآت
19 فبراير، 2022
757
(تحقيقات حول سر الترتيب المصحفي بين السور الثلاث: البقرة وآل عمران والنساء)
إنه السؤال الأهم في عقول أولي الألباب: لماذا هذا الترتيب المصحفي بين سور القرآن؟ لماذا بدأ القرآن الكريم بالفاتحة ثم البقرة ثم آل عمرآن ثم النساء؟
سوف يأتيك الجواب البصائري من علم اتصال النظم القرآني، إذ ينبئك عن جانبٍ من أهم جوانب الإعجاز:
لقد رأيت السياق المصحفي يُردِفُ سورةَ أم القرآن بهذه السور الثلاث الكبرى: البقرة، آل عمران، النساء، وإليك الآن المفاجأة في علم اتصال النظم القرآني في هذه السور الثلاث، وهيمنتها على إدارة أهم مِلفات الأحداث العالمية، فالسور الثلاث تدير ملفات التفاعل مع الآخرين محليًّا ودوليًّا وخاصة القوى الأكثر تأثيرًا في العالم: القوى الإسرائيلية والنصرانية، كما تسبق العالم بمِلف حق الإنسانية في الخماسية التي تمثل معاني (البث)، وهي الحياة (الإظهار)، والاستقرار، والإعمار، والتكاثر، والانتشار، وتقنين الحقوق النسوية بصورةٍ دقيقة تكفل إنشاء الأسرة المركزية التي تنبثق عنها الإنسانية المترابطة.
تسمع الضجيج الإعلامي الهادر الذي يشق الآذان، ويقلب الحقائق لدى بني الإنسان حول قضايا: العلاقات الدولية والمحلية بين الأمم القائمة على السلم العالمي، والتعايش بين الأقليات والأكثرية، وحقوق المرأة.
تأمل كيف عالجت السور الثلاث الكبرى الأولى من القرآن المجيد ذلك ببراعة تامة:
فسورة البقرة عالجت التفاعل مع اليهود بصورة خاصة.. ألم تر أن الله – عز وجل-سماها (البقرة) ليكون الاسم رمزًا حاضرًا حيويًّا يلخص التفاعل الدائم مع بني إسرائيل فهمًا لنفسياتهم، وإدراكًا للجانب الإيجابي والسلبي عندهم؛ إذ المقصود بالبقرة بقرة خاصة أمر موسى -عليه السلام- قومه بذبحها لحل إشكالية نشبت بينهم.
سورة البقرة -أيها القارئ العزيز- تعالج العلاقات الدولية مع أعظم فئةٍ دينية على وجه الأرض استطاعت أن تُكَوِّنَ لها هذا التأثير الضخم في الأحداث العالمية.
إنك لتندهش عندما تقرأ سورة البقرة؛ إذ ترى قصة بدء البشرية وآدم -عليه السلام- في الآيات (30-39)، ثم تأتي الآية (40) مباشرة لتصور لك بصورة مفاجئة انتقالًا (زمكانيًا) أي زمانيًّا ومكانيًّا يتجاوز التاريخ ليصل إلى بني إسرائيل حيث يخاطبهم الله – عز وجل-خطابًا مباشرًا، وينشئ معهم حوارًا يحمل في ابتدائه الكثير من التلطف من خلال مناداتهم بأحب اسمٍ يتلهفون على سماعه، وهو (بنو إسرائيل)، فيقول الله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}[البقرة: 40].
لقد كانت التجرِبة الإسرائيلية -في بصائر سورة البقرة- مليئةً بالسلبيات كما رأيت فيها إيجابياتٍ ضخمة، فإن رأيتهم في وصف السورة يقومون بأفظع الجرائم، فإنك ستجدهم يصنعون أعظم المكارم.
فتقرأ في الجانب السلبي قول ربك تعالى جده: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} البقرة: 61].
وفي الوقت ذاته ترى نهوضهم والصبر المدهش لصفوتهم في سبيل الله -عز وجل-، حيث تقرأ في الجانب الإيجابي قول ربك -عزَّ جارُه-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 246]، {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 250، 251].
وفي هذا الجانب الرائع من التاريخ الإسرائيلي يُشَبِّه أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَ بدر -وهم أعظم ثلة من المسلمين- بأصحاب طالوت عليه السلام، فعن البَرَاء رضي الله عنه قال: حَدَّثَنِي أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا أَنَّهُمْ كَانُوا عِدَّةَ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَازُوا مَعَهُ النَّهَرَ بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلاَثَمِئَةٍ [1].
كانت سورة البقرة تدور حول ذلك، ولذا كان موضوعها المبدئي الذي اخترته: إشراق الحضارة الإسلامية على العالم، والإفادة من تجربة الاستخلاف الإسرائيلية.
أما إشراق الحضارة الإسلامية فلأن سورة البقرة كانت أول سورة نزلت في المدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم سيخاطب العالم بها ولن يكتفي بخطاب قريش أو العرب فقط، ولأنه أصبح الداعية الحاكم، وليس الداعية فقط، فبنت (فسطاطُ القرآن الكريم) وهي سورة (البقرة) الحضارةَ التي تعيد العدل في الوقت الذي تلاعبت فيه القوتان العظميان (فارس والروم) بمفاهيم العدل والنظام في العالم.. لقد قدمت تلك الحضارة تفصيلاتٍ تشريعيةً وسياسيةً واجتماعيةً واقتصادية فأشرقت بنور ربها على الإنسانية الحائرة، وكان من أهم ما تقدمه الحوار مع صنفٍ من أذكى البشرية هم بنو إسرائيل، وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم جولاتٌ هائلة من الحوار والمعرفة التاريخية، فَعَرَّفنا الله سبحانه وتعالى بأدق التفاصيل التاريخية التي لا يعرفها بعضٌ ممن ينتسب إلى الرأي العام عندهم.
وأما الجزء الأخير من موضوع سورة آل عمران، وهو التفاعل مع الثقافة النصرانية فإنه لا يعزب عنك أيها القارئ اللبيب أن اسم السورة (آل عمران) لتشير إلى الرسالة النصرانية، والحضارة النصرانية والثقافة النصرانية، وبذا تراها تحل ثانيًا بعد التفاعل مع الثقافة اليهودية التي رأيناها في سورة البقرة..
تعرفنا سورة (آل عمران) بالواقع التاريخي الحقيقي لأسرة آل عمران: أم مريم، ومريم وعيسى عليه السلام، وتربط السورة بطرفٍ خفيٍّ بين التفاعل السلبي مع الحضارة النصرانية وبين الإخفاقات الحضارية التي حدثت في (أحد)؛ إذ لا شك أنه يملؤك الفضول المعرفي ابتداء عندما تجد اسم السورة (آل عمران)، ثم تجد نحو نصفها يتكلم عن دروس أحد.. فما الرابط بين الحضارة النصرانية التي يعبر عنها اسم السورة، وبين دروس أحد؟
وانظر لجمال الإحكام، ففي سورة البقرة تشرق الحضارة الإسلامية الوليدة، وفي سورة آل عمران تتعرض هذه الحضارة الوليدة لانتكاسة طارئة عندما خالفت سنن الانتصار، ويظهر الوجود الإسرائيلي بقوة في سورة البقرة كما يظهر الوجود النصراني في سورة آل عمران.. أما يعلمنا ذلك كيف يتحقق لنا الإخفاق أو النجاح في تفاعلنا مع الجهتين سواء أكان ذلك في ميدان الخصومة أم في ميدان التعاون؟ ومتى يقرر على المعاهد الديبلوماسية وعلى السلك الديبلوماسي بصفة عامة تدارس البصائر القرآنية السياسية في سورتي البقرة وآل عمران؟
أليس هذا مدهشًا؟
إنك لترى إحكامًا ظاهرًا، وترتيبًا لم يَعْدُ مكانه المناسب: التفاعل مع اليهود، وبعده يأتي التفاعل مع الحضارة الأكثر عددًا وقوة وإمكاناتٍ في الواقع العالمي.. إنها الحضارة النصرانية.
اليهود أقل عددًا لكنهم ذوو تأثيرٍ مهولٍ على مستوى العالم، وأما النصارى فيدير اليهود مراكزهم المالية، بل إنهم لفرط ذكائهم يديرون المراكز المالية العالمية.. يخطب صنَّاع القرار الحكومي والمعارض ود اليهود في العالم النصراني، بل يجعلون (إسرائيل) الأيقونة المركزية قبل الانتخابات وبعدها.
وناسب السياق المصحفي السياقَ التاريخي للتفاعل النبوي المنير مع العالم؛ فإن بني إسرائيل أول من تعامل معهم النبي صلى الله عليه وسلم تعاملًا مباشرًا بعد وصوله إلى المدينة، ثم التقى بوفد النصارى بعد ذلك عندما قاموا بزيارته.
وبعد: فماذا ترى في السورتين؟ لقد سبق القرآن الأممَ المتحدةَ والمختلفةَ والمؤسسات الحقوقية الدولية في إنشاء أسسٍ للتواصل المحليِّ والدوليِّ بين الأمم وأهل الأديان من خلال السورتين المباركتين (البقرة وآل عمران)، بينما ترى التلاعب الدولي قائمًا إلى الآن بأوراق تجد من عنواناتها (الأقليات، والأكثرية) فينصرون جهة ضد أخرى حسب الأهواء التي تقتضيها مصالح القوى المستكبرة في العالم.
والسورتان الزهراوان فصَّلتا التفاعل مع أكثر جهتين تأثيرًا في العالم هما: العالم الإسرائيلي، والعالم النصراني.. بماذا تشرق علينا سورة النساء؟
إنها تشرق بالكلام عن حق الإنسانية في الحياة والبثِّ الاجتماعي البشري، وتنظيم حقوقها البينية بالقسط؛ وحمايتها وخاصة المستضعفين والنساء من الاضطهاد..
إنها تقدم لك منظومة قانونية مقسطة متكاملة مدهشة تكفل للإنسانية الوجود، والبث، وتعبر لك أتم التعبير عن ذلك الآية الأولى {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]، فيشوقك الله جل ذكره تشويقًا مستفزًا لتتساءل: كيف يحدث ذلك؟
وعندها تجد السورة تتكلم عن حقوق الطفل والنساء ابتداء من الآية الثانية على صورة قوانين ملزمة يتخللها الإشراق الوعظي، والنور التذكيري، فيقول الله: { وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ } [النساء: 2].
تجد في سورة النساء كلامًا تفصيليًّا عن حق الإنسانية في (بثِّ جنسها)، وكيف يتأتى لها هذا الحق إن أهملت حقوق الأطفال، وتم التلاعب بحقوق النساء؟
وبذا تحدثك السورة عن حقوق الأطفال والنساء ليكون ذلك الحديث منطلقًا لتكوين الأسرة المركزية (الرجل والمرأة والأطفال)، والأسرة المتوسطة (ذوي القربى)، ومنهما يتم بث الجنس الإنساني، فتنشأ الأسرة الإنسانية الكبيرة، وهكذا يقرر الله -عز وجل- حقوق النساء ويضع القوانين والإجراءات اللازمة لتصبح مركزًا لقيام الإنسانية في الأرض بدلًا من أن تكون المرأة أداة يتلاعب بها الشيطان والذين يتبعون الشهوات.
ألا ترى أن دول العالم الأول تدق نواقيس الخطر إن وجدت معدل الخصوبة أقل من المعدل الطبيعي الذي يبقي على عدد سكان المجتمع ثابتًا على الأقل، فبعض الدراسات تقدر الحد الأدنى من عدد الأطفال الذي ينبغي أن تنجبه كل امرأة خلال حياتها 2،1 طفل لكل امرأة في الدول الصناعية، بمعنى أن كل عشرة أزواج في الدول الصناعية ينبغي أن ينجبوا 21 طفلًا، وأكثر من ذلك بقليل في الدول النامية لكثرة تعرضهم للحوادث.. ونقص المجتمعات عن هذا المعدل سيؤدي إلى شيخوخة الحضارة، ومن بعدها الفناء.. وبحسب تقرير للأمم المتحدة فإن معدل الخصوبة في أوروبا تراجع من 4.82 في عام1960م إلى 1.80 في عام 2016م.. إن ذلك ينذر بالفناء على المدى البعيد.
ائتوني بكتابٍ أو بثقافةٍ تجعل من النعم على البشرية: (البث الإنساني) أي استقرار الإنسانية وانتشارها في الأرض، إن السورة لا تطلب ثبات البشرية على عددٍ محددٍ بل تمن على العالم ببث البشرية على امتداد الزمان والمكان، ولذا تجد سورة النساء لا تخبرنا فقط عن حقوق النساء وواجباتهن، بل تتكلم عنهن في إطار الكلام عن البث البشري (الوجود والاستقرار والانتشار)، وإنما الله -عز وجل- جعل عنوانها الأبرز (النساء) لإنصافهن من الظلم الهائل الذي تعرضن له قبل الإسلام من جميع الحضارات الجاهلية القديمة التي كانت قائمة حينها سواء في ذلك الحضارة الرومانية أو الفارسية أو الهندية أو الصينية أو العربية الوثنية، فإن أصدق تصوير يوضح الحقيقة المرة المفجعة لوضع النساء عند هذه الحضارات هو قول الله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } [النساء: 19] أي لا تفعلوا ما يفعله أهل الجاهلية من عدِّ المرأة مجرد متاعٍ أو سلعة مثل السلع والأمتعة التي يقتنيها أحدهم في البيت وربما باعها أو تخلص منها.. هكذا كان حال الحضارات الجاهلية القديمة كما هو قريب مع تغير الأسماء وخداع الشعارات في الجاهليات المعاصرة.
بذا تعانق موضوع السورة مع اسمها على خير وجه.
وهكذا اجتمعت السور الثلاث الأولى في الترتيب المصحفي: البقرة وآل عمران والنساء، لتنبئك بتفصيلٍ يأخذ الأنفاس عن قضايا المرأة والتفاعل الإنساني مع الآخرين، وهو الذي تبخسه (الشرعية الدولية)، وتتلاعب به عندما تسميه (قضايا الأقليات) فتنصر أقلية ضد الأكثرية في مكان، وتتلاعب بحقوق الأقليات في أمكنة أخرى.
لعله استبان لك سبب (تسوير سورة النساء) على الوجه الجلي الأكمل.. إن إدراك ذلك يضيء لنا الطريق في إدراك نوعٍ مبهرٍ من الإعجاز المعنوي للفظ القرآني.
ومن أعظم المصادر التي تزيد تدفق المعاني في الآي القرآني: السياق المصحفي الذِّكْري القريب والبعيد[2]، والسياق التاريخي، والاعتبار للعموم اللفظي؛ واختلافات دلالات الألفاظ[3].
إن القرآن يمد الحضارة الإنسانية بأسباب الفلاح وأركان النجاح؛ لينقذها من أحوالها الأليمة، وأمراضها الكثيرة، فهل من مدكر ومعتبر!
كما أن بصائر القرآن تنير ظلمات الدياجي وتنشر رحمات المعرفة في الصحارى والروابي لتثمر المعارف الزاهرة في طريق البشرية الحائرة.
[1] صحيح البخاري (6/73) برقم3957.
[2] نعني بالسياق الذِّكْري أن الله تعالى جده ذكر هذه الآية بعد هذه الآية، وقبل هذه الآية، وكذلك ذكر هذه الكلمة قبل أختها التي بعدها، وبعد أختها التي قبلها.. وهكذا.
[3] نعني به أن اللفظ ربما كان ضمن المشترك، وربما كان ضمن المتواطئ وإخوانهما، ومنه تنثال البصائر الكثيرة والمعاني العظيمة.