علم الاجتماع القرآني.. ما الأسس التي تحدد لنا الصنف الذي يمنع الإنسانية من حقوقها، ويحارب الإدارة الراشدة، ويحرص على تدمير البشرية باللغو في الرسالة الإلهية؟
6 مايو، 2023
452
بعد ذكر الحقوق الإنسانية العامة والخاصة يذكر الله تعالى في المحور الرابع من سورة النساء
تعريفا بالصنف القيادي الأول الذي يمنع الإنسانية من حقوقها، ويحارب الإدارة الراشدة، ويحرص على تدمير البشرية باللغو في الرسالة الإلهية (النساء:44-46)
آيات هذا القسم:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (النساء:44-46).
حدد الله لنا الصنف القيادي الذي يتلاعب بحقوق الناس تحديدًا دقيقًا من خلال ذكر أهدافه وجنسه وصفاته، ويمكن أن نجمع هذه المعالم التي تشكل تفصيلًا مبينًا لهذا الصنف في الأسس الآتية، منها:
الأساس الثاني عشر:
الوقوع في اللعن الإلهي بسبب إصرارهم على تغطية الحقائق التي تبين دينهم الحقيقي، فقال الله يحثهم حثًّا متلطفًا: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾.
فلنتكلم عنهم فيما بيننا ونحن نحاول تحليل نفسياتهم، ولنخاطبهم أيضًا عسى أن يستفيقوا من غيهم، فنقول: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ أي سمعنا قولك، وأطعنا أمرك، وقبلنا ما جئتنا به من عند الله، واسمع منا، وانظرنا، وانتظرنا نفهم عنك ما تقول لنا.
فكلمة (انظر) تأتي بمعنى انتظر وانظر، فأما انتظر فمنه قول الحطيئة:
وَقَدْ نَظَـرْتُكُـمُ أِعْشَـاءَ صَـادِرَةٍ
لِلْخِمْسِ طَالَ بِهَا حَوْزِي وَتَنْسَاسِي [1]
وأما انظر فمنه قول عبد الله بن قيس الرقيات:
ظَاهِرَاتُ الجَمالِ وَالحُسْنِ يَنْظُرْنَ
كَـمَا يَنْـظُرُ الأَرَاكَ الظِّـبَاءُ
أي انتظرنا وانظرنا أي انظر إلينا فنفقه منك ما تقول.
وهنا ترى البصائر القرآنية تحثك على مزج الخطاب الدعوي بالخطاب السياسي.. أما لماذا لا بد من مزج الدعوي بالسياسي؟ فلأمور:
الأول: لحث المسلمين على جعل الخطاب الدعوي جزءًا من الخطاب السياسي في كل شيء.
الثاني: لبيان ضرورة أن يكون المسلمون على النقيض من الصفات السيئة التي لأعدائهم من اليهود المتصفين بتلك الصفات، فالمسلمون ينبغي أن يقولوا: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا﴾.
الثالث: لاستثناء طائفة من اليهود لا تتصف بتلك الصفات الرديئة.
الرابع: لكشف حالهم أمام أتباعهم المنخدعين بهم حيث يرفعون لهم تمسكهم بدينهم مع أنهم يلعبون به بأهوائهم.
وهذا الفهم يجعلنا نحاول خلط الجانب الدعوي بالجانب السياسي في التعامل معهم، بحثهم على فعل الأقوم سبيلًا.
وقوله: ﴿وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ تبصرنا بأنه يجب أن نفضح حقيقتهم التي وردت في كتابهم، وأن نذكرهم بوقوع العقوبة لهم التي يُبَصِّرُنا القرآن بها، ونجدها في التوراة، وهذا إن لم يفدهم فهو يفيد الرأي العام الذي يقومون بتضليله؛ إذ إننا هنا نكشف لأتباعهم فساد قيادتهم، وانحرافهم عن التوراة.
عندها ذكر الله لنا عقوبة هؤلاء المتلاعبين لنعلنها لهم، فقال: ﴿وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ لعنهم الله لأنهم يغطون الحقائق، ويتلاعبون بالحقوق التي للخالق وللمخلوق مع أنهم يزعمون أنهم يؤمنون بالتوراة ولكنهم لا يقيمون كثيرًا مما فيها، ويحرفون الكلم عن مواضعه.
ومما ورد في التوراة في سفر حزقيال مما يبين لعن الله لهم:
16: 36 هكذا قال السيد الرب: من أجل أنه قد أنفق نحاسك، وانكشفت عورتك بزناك بمحبيك، وبكل أصنام رجاساتك، ولدماء بنيك الذين بذلتهم لها.
16: 37 لذلك هأنذا أجمع جميع محبيك الذين لذذت لهم، وكل الذين أحببتهم مع كل الذين أبغضتهم، فأجمعهم عليك من حولك، اكشف عورتك لهم؛ لينظروا كل عورتك.
16: 38 وأَحْكُم ُعليك أحكام الفاسقات السافكات الدم، واجعلك دم السخط والغيرة.
16: 39 وأسلمك ليدهم، فيهدمون قبتك، ويهدمون مرتفعاتك، وينزعون عنك ثيابك، ويأخذون أدوات زينتك، ويتركونك عريانة وعارية.
16: 40 و يصعدون عليك جماعة، ويرجمونك بالحجارة، ويقطعونك بسيوفهم.
[1] البيت للحطيئة من قصيدة أولها:
وَاللَهِ ما مَعـشَرٌ لاموا اِمرَءًا جُنُبًا
فـي آلِ لَأيِ بنِ شَـمّاسٍ بِأَكـــياسِ
عَلامَ كَلَّفـتَني مَجـدَ اِبنِ عَـمِّـــكُم
وَالعيسُ تَخرُجُ مِن أَعلامِ أَوطاسِ
وفيها:
دَعِ المَــــكارِمَ لا تَرحَــــــل لِبُغيَتِها
وَاِقعُد فَإِنَّكَ أَنتَ الطاعِــمُ الكاسي
سيـري أُمامَ فَإِنَّ الأَكثَـرينَ حَصى
وَالأَكـــــرَميـنَ أَبًا مِـن آلِ شـــَمّاسِ
مَن يَفـعَلِ الخَيـرَ لا يَعـدَم جَوازِيَه
لا يَذهَبُ العُرفُ بَيـنَ اللَهِ وَالناسِ
من قصيدة يهجو بها الزبرقان ابن بدر، ويمدح بغيض بن عامر من شماس. والأعشاء جمع عشى (بكسر فسكون): وهو ما تتعشاه الإبل. والصادرة: الإبل التي تصدر عن الماء. والخمس: من أظماء الإبل، وهو أن تظل في المرعى بعد يوم ورودها ثلاثة أيام، ثم ترد في الرابع. والحوز: السوق اللين، حاز الإبل: ساقها سوقًا رويدًا. والتنساس والنس، مصدر قولك: نس الإبل بينها: ساقها سوقًا شديدًا لورود الماء. ويروى»إيناء صادرة». والإيناء مصدر آنيت الشيء: إذ أخرته. يقول للزبرقان، حين نزل بداره، ثم تحول عنها إلى دار بغيض (انظر خبرهما في طبقات فحول الشعراء: 96 – 98): انتظرت خيركم انتظار الإبل الخوامس لعشائها. وذلك أن الإبل إذا صدرت تعشت طويلا، وفي بطونها ماء كثير، فهي تحتاج إلى بقل كثير. يصف طول انتظاره حين لا صبر له على طول الانتظار.
وانظر: حاشية آل شاكر على تفسير الطبري ت شاكر (2/ 468)