المقالات

“فتبينوا” حماية من استغلال الدين لتبرير الجرائم.

جمال الكلمة القرآنية (31)

كيف تشرق كلمة {فَتَبَيَّنُوا} في قوله تعالى {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} على البشرية بالمعاني العظيمة؟

هل تساءلت يومًا عن سرّ تلك الكلمة القرآنية “فَتَبَيَّنُوا” خصوصا مع ورودها في سياق القتال؟ ماذا تخفي وراء حروفها من معانٍ عميقة ودلالات عظيمة؟

يُبَصِّرُنا قوله جل ذكره: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94] بضرورة اتباع أساليب الوصول إلى صحة المعلومات؛ وأهمها: التبين، والتثبت، وليس القرارات المستعجلة التي قد يترتب عليها إيذاء البشرية، وتشويه حقيقة الإسلام؛ ولذا أمر الله بأمرين:

الأول: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾، وهي قراءة الجمهور، وَالتَّبَيُّنُ: شِدَّةُ طَلَبِ البَيَانِ، أَيِ: التَّأَمُّلُ القَوِيُّ، والبحث، والتحري، والتقصي، حَسْبَمَا تَقْتَضِيهِ صِيغَةُ التَّفَعُّلِ.

☼☼☼☼

الثاني: ﴿فَتَثَبَّتُوا﴾، وهي قراءة حمزة، والكسائي، وخلف، والذي يظهر أن التثبت مرحلة لاحقة، فالتثبت شدة طلب البيان، واستقصاء الحقائق، فالبيان يثمر التثبت فهو خِلَافُ الإِقْدَامِ والعجلة حتى يثبت الأمر ويظهر ويستقر، فهذا الفرق بينهما، ولعل التبين حركة عقلية تمنع من التسرع في إطلاق الأحكام، والتثبت حركة جسدية تمنع من انزلاق الأطراف نحو شيء فيه شبهة، وكلاهما يثمر التكامل في السيطرة على الحركة العقلية والجسدية من التهور في إطلاق الأحكام أو تنفيذها، فبينهما تكامل في ضرورة التأني والتفحص والبحث عن المعلومات، وهذا يعني عدم تنفيذ الحكم بادئ الرأي.. انظر إلى هذا المشهد المهيب، وقارنه بما يفعله مستحلو الدماء من فرق الموت المجرمة في هذه الأيام.

☼☼☼☼

وقد تتساءل: من ذا الذي يجب عليه أن يتبين وأن يتثبت؟ هل يلزم ذلك الضارب في سبيل الله أم محكمة خاصة؟

عندما تتأمل في الآية فإنك تجد قول ربك جل ذكره: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ والخطاب للضاربين في سبيل الله لكن الضارب في سبيل الله قد لا يتمكن من معرفة الحقيقة، وعند ذلك لا بد من أن تكلف جهةٌ أعلى بأن تتحرى للوصول إلى حقيقة الأمر حتى تظهر حقيقة الأمر.

والتبين واجب، وترك التثبت حرام، ولذا فمن حق الجنود عصيان القائد في هذا الموضوع الخطير، ويروي ابن عمر ﭭ حادثة عصى فيها كلام قائده خالد بن الوليد، بل حرض بقية الجيش على التمرد على كلام القائد لإيقانه بفقدان شرط التبين، فقَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ، أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لاَ أَقْتُلُ أَسِيرِي، وَلاَ يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ.

فرفض عبد الله بن عمر تنفيذ الأمر العسكري، واحتكما إلى من هو أعلى وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وخضع خالد لهذا التمرد لخطورة الحكم الذي أصدره، فقال ابن عمر مكملًا بقية الواقعة: حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْنَاهُ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ» مَرَّتَيْنِ [1].

قال ابن حجر: «وزاد الباقر في روايته: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا فقال اخرج إلى هؤلاء القوم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك فخرج حتى جاءهم ومعه مال فلم يبق لهم أحد الا وداه» [2].

☼☼☼☼

فما المقصود من قوله ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾؟ إذ لم يقل: فانظروا هل هم مسلمون أم لا؟ بل أتى بصيغة أقوى من ذلك فقال: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾، وكذلك ﴿فَتَثَبَّتُوا﴾ وهذا يقتضي شدة التحري والاستقصاء، وقد لا يستطيع أن يقوم بهذه المهمة رجل واحد إلا أن يفرض عليه الموقف العام ذلك بأن لم يستطع أن يرجع إلى من هو أعلى منه لبعد المسافة الزمنية أو المكانية، وسترتب على ذلك مفاسد أخرى في الواقع العسكري.

☼☼☼☼


[1] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (4 / 120) برقم 3166.

[2] فتح الباري – ابن حجر (8 / 58).


الكلمات المفتاحية: "فتبينوا" "فتبينوا" حماية من استغلال الدين لتبرير الجرائم. جمال الكلمة القرآنية (31)