كيف كانت آيات المواريث معجزة في لفظها؟
21 سبتمبر، 2022
1657
الإعجاز التقنيني التشريعي المذهل في تقسيم الإرث
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ……} [النساء: 11] أيها المتبصر بأنوار القرآن إنك لترى من خلال آيات المواريث مع أنها قانونية تشريعية أن الصياغة القرآنية معجزة، سواء منها ما تعلق بالبناء اللفظي أو ما تعلق بالمبادئ التي تكتنزها هذه الصياغة.. إنها معجزةٌ من الناحية الدستورية التشريعية الحقوقية، وهي معجزة من ناحية إقامة العدل، وهي معجزة من ناحية الوعظ الذي يسري فيها، وهي معجزة من ناحية السبق في المبادئ، فبعد مرور عشرين قرنًا كما يزعمون من ميلاد سيدنا عيسى عليه السلام استيقظت البشرية لتقرر حقوقا ومبادئ للإنسان بينما نزلت هذه السورة قبل نحو ألفٍ وأربعمائة عام لتعطيَ كل ذي حقٍّ حقَّه:
ففي ثلاث آياتٍ فقط من سورة النساء [11 -12- 176] تمت الإحاطة بجميع الحالات التي يمكن أن تكون في الدنيا من مسائل الإرث، وذلك في قوله تعالى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ……} [النساء: 11] والتي بعدها وآخر آية من سورة النساء، وهنا ترى إعجازًا خاصًا؛ إذ يُفَصِّل الله هذا العلم -علم المواريث- في هذه الآيات الثلاث على نحو تقنينيٍّ تشريعيٍ معجزٍ وبصورةٍ مذهلة؛ إذ ذلك جاء في ثلاث آياتٍ!! نعم صدق أولا تصدق! فثلاث آيات فقط لا تزيد عن صفحة وربع يمكن أن تستخلص منها آلاف المسائل المفصلة للإرث، وكل هذا التفصيل القانوني بيانٌ للقانون الدستوري العام الوارد في قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7]، ولم يضف لهذه الآيات الثلاث إلا ثلاث آياتٍ حوت قوانين عامة تزيد في توضيح القوانين التفصيلية في الآيات الثلاث، وهذه الثلاث الإضافية في سورة النساء هنا، وهي قوله جل ذكره: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [النساء: 33]، وفي سورة الأنفال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75]، وفي سورة الأحزاب: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا } [الأحزاب: 6]، ثم جاءت السنة بنصوص توضيحية تزيد في فهمنا للآيات الثلاث، وأهم هذه النصوص قول النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» [1]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ المُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَيَسْأَلُ: « هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلًا؟». فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ لِدَيْنِهِ وَفَاءً صَلَّى، وَإِلاَّ قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: « صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُم» فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الفُتُوحَ؛ قَالَ: «أَنَا أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا؛ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا؛ فَلِوَرَثَتِهِ»[2
أسلوب العرض في آيات الميراث الثلاث اتخذ المعالم الآتية:
المعلم الأول: اتخذ العرض في الآيات الثلاث الأسلوب القانوني الدستوري الممتزج بالوعظ، والإشارة إلى مقاصد التشريع وهو عجيب جدًّا جمعه كله في هذه الآية فلسفة هذا التوزيع وحكمته.
المعلم الثاني: ذكر الله حقوق الورثة، وأشار إلى حقوق غير الورثة، ونبه تنبيهًا متكررًا بأساليب متميزة على الحقوق الإنسانية في الوصية.
المعلم الثالث: ما زالت آيات الإحكام والوحدة الموضوعية بينة واضحة أمامك؛ فإن تساءلت لماذا ذكر الله سبحانه وتعالى الإرث من الآية الحادية عشرة ولم يذكره في بداية السورة؟ فإن الجواب واضحٌ على وفق العنونة التي رأيتها في أقسام هذه السورة المباركة؛ فالله جلَّ مجده قدَّم لهذا التفصيل بمقدِّماتٍ عظميةٍ بدأها بأسس الاجتماع الإنساني وظهر ذلك في المقدمة الحقوقية العامة التي رأيتها في الآية الأولى، وبصرتنا بثمانية أسس، ثم ذكر الله الحقوق المالية والتكريمية لليتامى والحقوق التكريمية والمالية المستقلة للنساء فيما يتعلق بالزواج ليسهمن إسهامًا فعالًا في القيام على اليتامى، والحقوق المالية والتكريمية للسفهاء ليكون وجودهم معينًا على البناء المجتمعي وليس هادمًا له، ثم ذكر القوانين العامة المتعلقة بالحقوق والإرث.
المعلم الرابع: ترتيب الورثة في الآيتين جاء على أحسن نسقٍ وأجمل نظام لِأَنَّ الوَارِثَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالمَيِّتِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ أَوْ بِوَاسِطَةٍ، فَإِنِ اتَّصَلَ بِهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَسَبَبُ الِاتِّصَالِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّسَبَ أَوِ الزَّوْجِيَّةَ، فَحَصَلَ هَاهُنَا أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ، ورتبت ترتيبًا منطقيًا:
فأول الأقسام ما كان سبب الِاتِّصَال فيه النسب، وذلك هو قرابة الولادة، وَيَدْخُلُ فِيهَا الأَوْلَادُ وَالوَالِدَانِ، وبدأ بذكر الأولاد لشدة الصلة بهم، ولأن أمر الميراث مما ينتقل إلى اللاحقين من السابقين.
وَثَانِيهَا: الِاتِّصَالُ الحَاصِلُ ابْتِدَاءً مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَهَذَا القِسْمُ مُتَأَخِّرٌ فِي الشَّرَفِ عَنِ القِسْمِ الأَوَّلِ لِأَنَّ الأَوَّلَ ذَاتِيٌّ وَهَذَا الثَّانِي عَرَضِيٌّ، وَالذَّاتِيُّ أَشْرَفُ مِنَ العَرَضِيِّ، وَهَذَا القِسْمُ هُوَ المُرَادُ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ الَّتِي نَحْنُ الآنَ فِي تَفْسِيرِهَا. وَثَالِثُهَا: الِاتِّصَالُ الحَاصِلُ بِوَاسِطَةِ الإكليل النسبي المحيط بالميت، وهم الأخوة، وأُعطي هذا الاتصال تسمية متميزة، وهي الكَلَالَة.
المعلم الخامس: بدأت الآيات بأقرب الناس إلى الإنسان، وهم الورثة المتصلون به بسبب النسب دون واسطة، ولعل سبب فصل الآية الثالثة التي تتكلم عن الإخوة الأشقاء أو لأب عن الآيتين أن يبين الله تكامل الأنظمة الإسلامية التي تبني الحياة، وعدم إمكانية الحصول على نتائج كاملة العدالة إذا طبقنا جزءًا، وتركنا آخر، ولذا فصل بين آيات الإرث بذكر تحصين الأسرة المسلمة من جرائم الفاحشة، وبقية حقوق الزوجات، وأن يبين كيفية التعامل مع الزوجات الصالحات، ويبين كيفية التعامل مع الزوجة الناشز، وبيان واقع قيادة مجرمي العالم في التحالف على اشتراء الضلالة، وبيع الهدى بإنشاء المؤتمرات والقوانين التي تسهل الفاحشة وتدمر الأسرة، وتتلاعب بالمرأة وترميها في الشوارع بعد ظهور ضعفها وضمور جمالها وكذلك تبين كيفية التعامل مع الزوج الناشز أيضًا.. وهكذا إلى أن جاءت الآية الثالثة للإرث في آخر السورة. حتى يبين أن نظام الإرث غير منفصل عن نظام الحقوق العام في المجتمع، وبالتالي يظهر لماذا الله فصل الميراث بهذه الطريقة. فهذا من حكم الفصل بين الآيات الثلاث.
وهذا غيض من فيض، وقطرة من بحر، ولا يزال الناس يكتشفون طلائع الإعجاز القرآني المذهل منذ نزوله، وما قطعوا فيه واديا ولا بلغوا له ساحلا، بل كأنه كمن يسير معهم فهم يسبرون معه لا فيه، كيف لا!
وهو لهم أسبق وبهم أرفق وعليهم أشفق، يتنزل لهم إذا راموا فهمه ويرفعهم إن أرادوا قربه، ولكنهم لا يدركون منه إلا ما يحتاجونه ولو انكشف لهم لماتوا من شدة الحب وجمال اللفظ وجلال المعنى، فاللهم علمنا القرآن واجعلنا من أهله.
[1] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (8 / 187) برقم 6732.
[2] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (3 / 128) برقم 2298.