لماذا أشار الله سبحانه وتعالى باسم الإشارة “تلك” في قوله تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [النساء: 13] ولم يقل “هذه حدود الله”؟
وماذا تثير “تلك” في نفسك؟
4 نوفمبر، 2022
209
بعد أن ذكر الله تعالى أحكام المواريث في البصائر القرآنية قال {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} وهي جملة تثير في نفسك ضرورة الشعور بعظمة التشريعات والتنظيمات السابقة، والتشريعات والتنظيمات اللاحقة.. فليشرب في قلبك التعظيمَ لكلام العلي الرحيم فإنه يقول: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} فما مغزى اسم الإشارة هنا؟
﴿تِلْكَ﴾ إشارةٌ إلى التشريعات القانونية التي احتواها القرآن المجيد هداية للعالم، ولتعظيمها أشار إليها باسم الإشارة الدال على البعد.. إنه البعد في المكانة والمنزلة.. فإن اسم الإشارة الدال على البعد يؤتى به لغة تفخيمًا للمشار إليه أو تهويلًا وتشنيعًا لحاله:
فأما التشنيع فمثل قوله الملك الحق المبين جل جلاله: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [هود: 59] تلك عادٌ في قوة خلقها، وعظمة حضارتها وشناعة تفكيرها وبؤس اختيارها.
وأما في التعظيم والتفخيم فمثل قول الله -عزَّ جارُه-: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] في عظمة منزلته، وجلالة مكانته، وكماله مصدرًا ومظهرًا ومخبرًا، ومثل قوله جل في علاه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} [فاطر: 13] في عظمته وكماله وجلاله.
وهنا يقول: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي في عظمتها القانونية، وحراستها لمصلحتكم، وقيامها بحقوقكم..
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} التي توازن بين حقوقكم العقلية وحاجاتكم العاطفية..
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} التي تجمع بين شهواتكم الجسدية وأشواقكم الروحية..
فإن الحقوق الإنسانية ينبغي التوازن فيها، فقد آخَى النَّبِيُّ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ. قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ.
قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ. قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ قَالَ: نَمْ. فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ.
قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ فَصَلَّيَا. فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإن لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإن لأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَأَتَى النَّبِيَّ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ «صَدَقَ سَلْمَانُ» ، وزاد النبي في ذكر التوازن بين الحقوق في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: «فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِزَوْرِكَ -أي لضيفك- عَلَيْكَ حَقًّا (زاد مسلم: وإن لولدك عليك حقًا») ..
تلك حدود الله التي تجدون فيها التوازن الذي دمرته أهواء الحضارات الأنانية القديمة والمعاصرة.
أ.د/ عبد السلام المجيدي
مفصل تفسير سورة النساء