مقتطفات

لماذا قال الله تعالى في وصف أهل الجنة ﴿خَالِدِينَ﴾ بينما أفرد أهل النار عند وصفهم بالخلود فقال: {خَالِدًا} [النساء: 14]؟ حوار بين الشاطبي ومشايخه

أ.د/ عبد السلام المجيدي

﴿وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدۡخِلۡهُ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ (١٣)
وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ يُدۡخِلۡهُ نَارًا خَٰلِدٗا فِيهَا﴾
إنك تراه جل مجده ذَكَرَ أَهْلَ الجَنَّةِ ووصفهم بالخلود فقال: ﴿خَالِدِينَ﴾ بينما أفرد أهل النار عند وصفهم بالخلود فقال: {خَالِدًا} [النساء: 14].. فلماذا هذه المغايرة؟
دار الحوار بين أبي إسحاق الشاطبي وبعض مشايخه حول ذلك، ويحكي الشاطبي في الإفادات والإنشادات ذلك فيقول:
قال لي الأستاذ الجليل أبو سعيد بن لب حفظه الله: سئلت عن قوله تعالى في سورة النساء {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [النساء: 13] الآية فجمع قوله ﴿خَالِدِينَ﴾ وقال بعدُ:
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14] فأفرد قوله ﴿خَالِدًا﴾؟
قال: وأجبت أن الجنة لما كان لأهلها فيها اجتماعات، وليس فيها فرقةٌ، ولا توجد، جاء قوله ﴿خَالِدِينَ﴾ اعتبارًا بالمعنى الحاصل في الجنة من الاجتماع، ولما كان أهل النار على الضد من هذا وكل واحد منهم في تابوت من نار، حتى يقول أحدهم: إنه ليس في النار إلا هو جاء قوله ﴿خَالِدًا﴾ اعتبارًا بهذا المعنى.
ويظهر لي أن في ذلك نظرًا، فإنهم يجتمعون في بعض أحوال التعذيب لا ليأنس بعضهم ببعض، بل ليلعن بعضهم بعضًا، ويزدادون رعبًا برؤية العذاب المشترك الذي يقمعهم، ويدل على هذا الاجتماع مواضع من القرآن المجيد منها قوله جل ذكره:
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الصافات: 27 – 29] وقوله تعالى جده: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص: 64]،
وعقب السيد علي القديمي وفقه الله: ويمكن ان يقال يجمع بينهما، فقال ﴿خالدا﴾ للإشعار بالانفراد كمن يهدد بسجن انفرادي، فإنه أشد، ولأن التعذيب الانفرادي أشد، فالاجتماع في العذاب يخفف العذاب، ولا مانع من ذكره اجتماعهم في بعض الاوقات للتلاعن والتخاصم، فهذا قليل بالنسبة لحال انفرادهم أو أن التخاصم والتلاعن ليس عذابًا بالنسبة لما يحصل لهم.
فلنتابع المسائلة بين الشاطبي وأشياخه رحمهم الله:
قال الشاطبي: فعرضت على شيخي الإمام الأستاذ أبي عبد الله بن الفخار هذا السؤال فأجاب عنه بأنه تعالى ذكر في الأولى جنات متعددة لا جنة واحدة فقال: {ندخله جنات} والضمير المنصوب في {ندخلهُ} وإن كان مجموعًا في المعنى فهو في اللفظ مفرد، والمفرد من حيث هو مفرد لا يصح أن يكون في جنات متعددة معًا، فجاء ﴿خَالِدِينَ﴾ ليرفع ذلك الإيهام اللفظي، فهو اعتبار لفظي ومناسبة لفظية، وإن كان المعنى صحيحًا، وأما الآية الثانية فإنما فيها نار مفردة، فناسبها الإفراد في «خالدًا».
ولعلي أستلذ في المعنى أن أصحاب الجنة يكون من كمال نعيمهم الاجتماع بأحبائهم أهلًا وأصحابًا؛ فإن البعد عن الحبيب محزنة لأصحاب العيش الرطيب، فنعيم الأنس له جماله.. فيا لذة اللقاء بالأحبة محمدٍ وحزبه، وقد قَالَ المَعَرِّي:
ولو أنّي حُبِيـتُ الخُـلْدَ فَـرْدًا
لمَا أحبَـبْتُ بالخُلْدِ انـفِرادا
فلا هَطَلَتْ عَلَيّ ولا بأرْضي
سَحائبُ ليـسَ تنْتَظِمُ البِلادا
على أن الخلة المؤمنة تنفع في بعض أحوال القيامة، وفي رفعة الدرجات في الجنات كما قال الملك الوهاب رب الأرض والسموات: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 67]، وقال في الانتفاع والارتفاع {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } [الطور: 21] بينما لا يغني اجتماع أهل النار عنهم شيئًا كما قال تعالى ذكره: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } [الزخرف: 39].

أ.د/ عبد السلام المجيدي

مفصل تفسير سورة النساء