لماذا قدم الله تعالى (يُقْتَلْ) على (يَغْلِبْ) في قوله تعالى {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}؟
31 أكتوبر، 2023
950
وما أثر ذلك في بناء نفسية المجاهدين؟
ضوابط القتال عند تحتمه (2)
يقرر الله تعالى هنا أن الحل العسكري لا يَعتمِد على النتيجة عند تحتمه، بل على القيام بالواجب.
فالله يقول: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74].
وبهذا يبني الله النفسية التي تؤمن بأنها فائزة سواء قُتِلَت أم غلبت، فإن أجبرتم على القتال فيجب عليكم أن تقاتلوا، فلا تقولوا: لا نملك فرصة للانتصار، ما دام القتال متحتمًا، ولا مفر منه إلا حياة مؤلمة، فيجب عليكم أن تقاتلوا، فكل نتيجةٍ تترتب عليه فهي انتصارٌ {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء: 74] لم يقل فينتصر، فمهما كانت النتيجة فهي انتصار؛ إذ يترتب على الالتحام أحد أمرين:
إما أن يُقتل المشارك، وينتصر الجيش من بعده، وإما أن يَغلِبَ، أي: يبقى على قيد الحياة منتصرًا، وعلى الحالين سيجد أجرًا عظيمًا يعلم الله مقداره سواء أكانت النتيجة أن يُقتل المجاهدون أم أن يَغلبوا عدوهم.. اسمع إلى ذلك مرة أخرى في الآية {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء: 74].. هذه الآية تعطينا هدية ضخمة توجد الردع عند كل أهل الشر والعدوان، فطالما غفلنا عن هذه الحقيقة، وهي أساس الانتصار الحقيقي، وهذه الفكرة الهدية أن المساواة بين المقتول في سبيل الله تعالى وبين المنتصر في المعركة في الأجر قائمة، فالمقتول في سبيل الله إذا أراد الله فقد فاز فوزًا عظيمًا، ومثله المنتصر، بل نلاحظ تقديم المقتول في سبيل الله تعالى {فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ} [النساء: 74]؛ لأن بعض الناس يعتقدون إذا انكسر القائم بهذا الواجب، فقتل وحلت عليه الهزيمة فقد جر مصيبة على نفسه وعلى قومه.. هذا الفهم في هذه الحالة غير صحيح بما أن خياراته نفدت، والخيار الوحيد الباقي له غير القتال هو الاستسلام المذل الذي يود معه أن يموت مراتٍ.
وهذه الجملة المباركة يستبين معناها بجلاء من خلال تطبيق قواعد الاحتباك العربي
فقد ذكر الله القتل أولًا، والغَلَب ثانيًا، ويكون المعنى: ومن يقاتل في سبيل الله فيُهزم ويقتل، أو يَغلب ويَسلم فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا، وهذه الجملة ردٌّ بليغ على المبْطئين المبَطِّئين؛ إذ ما الذي يخافه المسلمون من القتال عند وجوبه وتحتمه؟ هل يخافون أن يغلبوا؟ فما الضير في ذلك؟ والأجر العظيم ثابتٌ في كل الأحوال..
إن هذا الأساس الرائع من أسس أخذ الحذر تضمن ردع المعتدين، عندما يشعر المعتدي بأن المجتمع الذي يريد أن يأكله ويهجم عليه ويقتل أبناءه ويستولي على خيراته.. عندما يشعر المعتدي أن هذا المجتمع مستعد للتضحية إلى آخر حد فإن هذا سيردعه، وسيجعله يهرب ويحسب ألف حساب، لكن إن رأى بأن هذا المجتمع خائف من المواجهة فإنه سيزداد عَداء واعتداء، فحقيقة هذا الأساس هو بناء لأهم أسس استراتيجية أخذ الحذر، وحماية الأمة من محاولة الاختراق والاستيلاء عليها، ولذا قال الطبري: «وهذا حضٌّ من الله المؤمنين على جهاد عدوه من أهل الكفر به على أحايينهم غالبين كانوا أو مغلوبين، والتهاونِ بأقوال المنافقين في جهاد من جاهدوا من المشركين وأن لهم في جهادهم إياهم -مغلوبين كانوا أو غالبين- منزلة من الله رفيعة» [1].
وتأمل في الآية مجددًا لترى أن الله جل جلاله يقول: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ} [النساء: 74] ولم يقل يؤتيه، وذلك لأن الأجر العظيم الذي يجده إما أن يجده من ربه خالصًا وإما أن يغلب عدوه فيجد الأجر من ربه، وما يستتبع الغلبة من النصر والجاه والسيادة التي يسبغها عليه الناس.
#المجيدي
مفصل تفسير سورة النساء
[1] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 541).