المقالات

لماذا كانت معايير بناء نظام الإرث في الإسلام مذهلة؟

أ.د/ عبد السلام المجيدي

 الفلسفة المذهلة لنظام المواريث في البصائر القرآنية

{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11]

وضع الله سبحانه وتعالى الأحكام الشرعية في أعلى مستويات الإحكام والحكمة، وقد تجلى ذلك في أنظمة التشريع المتنوعة، ومن ذلك نظام الإرث الإسلامي، فإنه تكريمٌ للإنسانية، ورحمةٌ بها، وإعانةٌ لها على (البث) أي على الإظهار والاستقرار والانتشار، والتكاثر المؤدي للإعمار.

فقد أنزل الله هذا النظام الـمدهش في الإرث؛ ليغيث الله البشرية به من الظلم الذي ملئت به الـمجتمعات بسبب الأنظمة غير العادلة في الإرث، وليثبت به عرى الرابطة النسبية، واللحمة الرحمية.

ولنفهم هذا بذكر ضده فإن أَسْبَاب الإِرْثِ في الجاهليات القديمة والمعاصرة أربعة:

أَحَدُهَا: النَّسَبُ المتحكَّم به، فعبره ينال الإرث الرجال المحاربون، ويحرم منه النساء والولدان، ويتحكم في الوارث، فغالبًا يرث الولد القوي فقط، ويبقى بقية الأقارب بلا إرث، فقد قال ابْن عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ المَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتِ الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فنَسَخ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ وَالثُّلُثَ، وَجَعَلَ لِلزَّوْجَةِ الثَّمُنَ وَالرُّبُعَ، وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ»[1].

ثَانِيهَا: التَّبَنِّي، فيتبنى الرجل طفلًا فيشب ويأخذ الميراث، وَقَدْ أَبْطَلَ اللهُ نظام التَّبَنِّيَ للمحافظة على الشجرة الإنسانية، ولكنه أقام مكانه أنظمة متعددة مثل نظام الكفالة، ونظام السعي على المستضعفين.

ثَالِثُهَا: الحَلِفُ وَالعَهْدُ، حيث كان الرجل يقول لصاحبه: الدم الدم والهدم الهدم تَرِثُنِي، وَأَرِثُكَ، وَتَطْلُبُ بِي وَأَطْلُبُ بِكَ. فَإِذَا تَعَاهَدَا عَلَى ذَلِكَ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الآخَرِ كَانَ لِلْحَيِّ مَا اشْتُرِطَ مِنْ مَالِ المَيِّتِ، وَأبطل هذا النظام بِآيَاتِ المِيرَاثِ، ولكنه حث على الوصية للحليف والصاحب.

رابعها: نظام الإرث بالوصية، حيث ينتقل المال إلى من تتم الوصية له، وفي الجاهلية المعاصرة اتخذ هذا الأمر منحى متطرفًا؛ فيكون الإرث للموصى له ولو كان كلبًا، وبقية البشر يئنون.. انظر إلى أي قاعٍ سحيق وصلت الإنسانية.

ألا كم يخسر المحاربون للشريعة الإسلامية من مصالح، وكم يفوتون على البشرية من منافع؟

فإن نظام الإرث اتسم الإسلام ببناء نظامٍ فريدٍ مدهش ما زالت النظم القديمة والمعاصرة تحبو بعيدًا عن هدايته، وتغشاها الأنانية والكبر والعناد فتعمى عن رؤيته، فالبصائر القرآنية نظمت الإرث وفق المعايير الآتية:

المعيار الأول: بث الحياة الإنسانية، فالأجيال القادمة يتقدمون في حقوقهم في الإرث على الأجيال السابقة:

ولذا فحقوق الأولاد ذكورًا وإناثًا أعلى بكثير من حقوق الآباء والأمهات، فالبنت إن ورثت من أبيها النصف حال عدم وجود أخٍ ذكرٍ فإن والد الميت يرث السدس فقط في التقعيد العام، وكل ذلك لأن الأب قد أخذ وقته المناسب وازدادت خبرته في واقع الحياة، ونال فرصة لجمع قدرٍ من المال يقتات عليه، بينما ترى الجيل الجديد يستقبل الحياة بتحدياتها.. أليس هذا هو الأرشد والأهدى سبيلًا؟

أخبر بذلك ضعاف العقول الذين لا يعرفون الفلسفة الإرثية العالية في الإسلام.. يموت الميت فيخلف أمًا وأبًا وابنة، فترث الأم أقل من البنت التي ستحصل على النصف مع أن كلتيهما من جنسٍ واحدٍ: هذه أنثى وتلك أنثى، بل لو خلف الميت ابنتين لكان لهما الثلثان، فيسيطران على نسبة أعلى من الأبوين بل ضعف ما يكون للأبوين، ولو خلف الميت ابنًا ذكرًا ووالدًا وأمًا، فإن الأب يأخذ السدس مثل الأم فاستويا، والابن يأخذ الثلثين الباقيين.. لماذا مع أن الابن ذكر كالأب تمامًا؟

إنه النظر إلى الأجيال القادمة، ومراعاة حقوقها حتى لو كانت هذه الأجيال في مرحلة الرضاعة.

إنها المعايير العالية التي لا يعرفها الأنانيون المتكبرون.

المعيار الثاني: الأقرب نسبًا يقدم على النسب النازل عنه، ويعود ذلك بالمصلحة على بث الحياة الإنسانية:

فوالد الميت يتقدم في الإرث على إخوته؛ إذ إن الأب ينفق على الأجيال اللاحقة وعلى غيرهم، فأن يعطى النصيب الأوفر يعني ذلك إعطاء إخوة الميت أيضًا، ويرتبط الإرث هاهنا بنظام صلة الرحم، فمن تمام صلة رحم الميت أن يوصل ذووه وأصدقاؤه.

المعيار الثالث: العدل بالنظر إلى عبء الحياة القادم، فإن اتفقت درجة القرابة ينظر إلى العبء المالي المستقبلي،

فهنا يكون للذكر مثل حظ الأنثيين؛ إذ الذكر سينفق على الأنثى وغيرها.. أفليس من العدل أن يأخذ ضعفها؟، ولكن المرأة قد تأخذ أضعاف ما يأخذه الرجل مثل ما تأخذه بنتان مع أخوين، فللبنتين الثلثان، والأخوان يقتسمان الثلث؛ فالبنتان يمثلان الجيل القادم، ولذا فإن المرأة قد ترث مثل الرجل، وقد ترث أكثر من الرجل، وقد ترث ولا يرث الرجل، ويرجع إلى هذه الحالات الثلاث أكثر من ثلاثين حالة، وقد ترث نصف ما يرث الرجل وليس ذلك إلا في أربع حالات.

كما تجد معاني دقيقةً تظهر التقسيم العادل لأقارب الميت الذين ارتبطوا به إما بالنَّسَب، وإما بالصِّهْر، وَإما بالوَلَاء، وذلك لتقوية الجانب الأسري الذي يشكل الخلية الحقيقية لبناء المجتمع، ووضع قواعد من أجل هذا الإرث مع اعتماد مبدأ التكافل والوصايا والمواساة والتعاون والتآزر بصورة إلزامية أحيانًا، وغير إلزامية أحيانًا أخرى.. أما الوصية فقد حثَّ الله عليها حثًا مؤكدًا وجعلها خاصة بغير الورثة، ليتم بها المشاركة المجتمعية مع بقية أفراد الإنسانية، ووازن بينها وبين حقوق الأرحام.

وقد جعل الله أساس التقسيم العدل، الذي يعني إعمال قانون الغنم بالغرم من جهة، وقانون الرعاية الإنسانية والاتصال بين الأجيال من جهة أخرى، ولم يُقِم نظامه هنا أوهامًا يختلقها الإنسان لنفسه قد يسميها المساواة المطلقة.. فأنت ترى في واقع الحياة: من ذا الذي يرضى أن يعمل عشر ساعاتٍ ليساوى به من يعمل ساعة؟

ولقد ترى الإسلام أقام الحياة على العدل بين الرجل والمرأة، والصغير والكبير في أمور كثيرة: فإن أوجب على المرأة الحجاب، فقد حرم على الرجل لبس الذهب والحرير في المقابل، وإن زاد في سهم الرجل أو المرأة في الميراث، فقد قابل تلك الزيادة بزيادة المسؤولية المناسبة على من كان له مزيد ثروة من مال.. في سلسلة من التشريعات المنظمة التي تؤدي إلى العدل.

ومن يطعن في قوانين الإرث الإسلامية الرائعة ونظمه فإنما يخبر عن جهله بربه سبحانه من جهة، وعن جهله بنفسه من جهة ثانية، وعن جهله بالبشرية من جهة ثالثة.. إنه جهلٌ يثير الرثاء، ويبعث على الشفقة؛ لأن صاحبه يسعى في ظلم البشرية، وهو يظن أنه يدافع عن حقوقها، ولكننا يمكن أن نقرر أيضًا أن من يطعن في هذه القوانين فهو يطعن البشرية بقبضة ظالمة آثمة، ويعيدها لشريعة الغاب المجرمة.

في هذا النظام العادل للإرث يغيث الله البشرية من الظلم الذي تتخبط فيه عندما تحاول اختراع أنظمة في الإرث تمتلئ بالظلم إما للأفراد وإما للمجتمعات، وبهذا النظام الفريد هدم الله نظام الإرث الجاهلي المجحف الظالم المعتدي على الحقوق الإنسانية بأهواء مفرطة في الأنانية، فكل الأنظمة البعيدة عن التشريع الإسلامي الفريد تؤدي إلى ظلم المستضعفين، وإبقاء المال دولة بين الأقوياء والأغنياء، وإدراك هذا العلم يوسع أفقك في مدى رحمة الشريعة بالإنسانية، ولذا جاء الحث على تعلمه، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْعِلْمُ ثَلاَثَةٌ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ فَضْلٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ» [2]، وقال عمر بن الخطاب: تعلموا الفرائض واللحن والسنن كما تعلمون القرآن [3].

إن هذا (شيئا من الفلسفة المذهلة لنظام الميراث في البصائر القرآنية)..


[1] صحيح البخاري ـ حسب ترقيم فتح الباري (4/ 4) برقم 2747.

[2] أبو داود (3 / 78) برقم 2885، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم 3871.

[3] سنن الدارمي (4/ 1885) برقم2892، قال حسين سليم أسد: إسناده صحيح، وهو موقوف على عمر رضي الله عنه، والمراد باللحن إما العربية وإما الخطأ في العربية، وتعلمه ليتقى.