المقالات

ما أهم قانون كلي يمنع الوقوع في شرك الطاعة؟

أ.د/ عبد السلام المجيدي

ثلاثية الإيمان الصادق

مضى القرآن الكريم في بيان معالم المنافقين وهم الصنف القيادي الثاني الذي يمنع الإنسانية من نيل حقوقها في ظلال شريعة الرحمة والعدل في الآيات [60 – 65]

من سورة النساء، ثم ذكر الله تعالى أهم قانون كلي يمنع الوقوع في شرك الطاعة ويقيم الإيمان الحقيقي، وهو تربية النفس على ثلاثية الإيمان الصادق التي تذكر بالثلاثية في الآية السابقة: التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الحياة وخاصة فيما تتم فيه الخصومة، وعند معرفة الحكم النبوي لا بد من أن يزول الحرج أي الضيق من القضاء النبوي، وأن يتم التسليم الكامل لقضائه، وذلك يعني الرجوع غير المتردد لسنته صلى الله عليه وسلم، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

إن الله يعلمنا كيف ننشر في وسائل التعليم والإعلام ما يجعل المتحاكمين إلى الطاغوت يضطرون إلى الاستقامة على ما يقتضيه زعمهم بأنهم مسلمون، فشرط الله جل جلاله ليتحقق الإيمان أن يلتزموا بالتحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يظهر أن الإيمان حقيقيٌ.. إن ذلك تأكيدٌ عظيمٌ على ضرورة تتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والتزام حكمه؛ إذ نفى الله الإيمان عمن لا يفعل ذلك فقال: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ﴾ وَأَكَّدَهُ بِالقَسَمِ وَبِالتَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ، «وأصل الكَلَام: فو ربّك لَا يُؤْمِنُونَ، وَالعَرَبُ تَأْتِي بِحَرْفِ النَّفْيِ قَبْلَ القَسَمِ إِذَا كَانَ جَوَابُ القَسَمِ مَنْفِيًّا لِلتَّعْجِيلِ بِإِفَادَةِ أَنَّ مَا بَعْدَ حَرْفِ العَطْفِ قَسَمٌ عَلَى النَّفْيِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الجُمْلَةُ المَعْطُوفُ عَلَيْهَا، فَتَقْدِيمُ النَّفْيِ لِلِاهْتِمَامِ بِالنَّفْيِ، كَقَوْلِ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ:

فَلَا وَاللَّهِ أَشْرَبُهَا صَحِيحًا

وَلَا أُشْفَى بِهَا أَبَدًا سَقِيمَا» [1]

إنها عبارة واضحة صريحة في تحديد شرط الإيمان، فشرط الإيمان التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء مهما صغر {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] ، وشجر يشجُر شُجورًا وشَجْرًا إِذَا اخْتَلَفَ وَاخْتَلَطَ و”تشاجر القوم”، تنازعوا في الكلام والأمر «مشاجرة وشِجارًا»، مَأْخُوذٌ مِنَ التِفَافِ الشَّجَرِ، فَإِنَّ الشَّجَرَ يَتَدَاخَلُ بَعْضُ أَغْصَانِهِ فِي بَعْضٍ، ولم يتبين، ومعلوم بأن تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعني تحكيم شخصه بل تحكيم شريعته، والالتزام بمنهجه، والبحث عن سنته لا التخلي عن ذلك لمجرد وجود العناء في التمييز بين الصحيح والضعيف، والآن عد إلى الآية لتجد أن الله جعل مجرد التحاكم إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم غير كافٍ في تحقيق الإيمان حتى يضم إليه أمرين

فقال الله عن الأول: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء: 65] والحرج الانزعاج والضيق الشديد والقلق كما في قوله تعالى {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125] ، فهو يأمر بألا يحدث أدنى تردد في النفس أو في الصدر من الحكم المتوصَل إليه، «وَلَيْسَ المُرَادُ الحَرَجَ الَّذِي يَجِدُهُ المَحْكُومُ عَلَيْهِ مِنْ كَرَاهِيَةِ مَا يُلْزَمُ بِهِ إِذَا لَمْ يُخَامِرْهُ شَكٌّ فِي عَدْلِ الرَّسُولِ وَفِي إِصَابَتِهِ وَجْهَ الحَقِّ» [2].

وقال عن الثاني: ﴿وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء: 65) والتسليم القلبي المطلق بنتائج التحاكم، فأمر بالتسليم الباطني مع الانقياد الظاهري.

وعدم الحرج والتسليم يعنيان التحرك لتنفيذ ذلك دون إبطاءٍ أو تراخٍ.. وقد ذكر الله هذا الركن الركين من معاني الإيمان: ركن التحاكم إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع متعددة مبينًا مناقضة الممتنع عنه لحقيقة الإيمان كما في قوله تعالى جده: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 47 – 51] [3].

قال الطاهر بن عاشور: « ثُمَّ إِنَّ الإِعْرَاضَ عَنِ التقاضي لَدَى قَاضٍ يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ الإِسْلَامِ قَدْ يَكُونُ لِلطَّعْنِ فِي الأَحْكَامِ الإِسْلَامِيَّةِ الثَّابِتِ كَوْنِهَا حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ كُفْرٌ لِدُخُولِهِ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا ﴾ (النُّور: 50) وَقَدْ يَكُونُ لِمُجَرَّدِ مُتَابَعَةِ الهَوَى إِذَا كَانَ الحُكْمُ المُخَالِفُ لِلشَّرْعِ مُلَائِمًا لِهَوَى المَحْكُومِ لَهُ، وَهَذَا فُسُوقٌ وَضَلَالٌ، كَشَأْنِ كُلِّ مُخَالَفَةٍ يُخَالِفُ بِهَا المُكَلَّفُ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ لِاتِّبَاعِ الأَعْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلطَّعْنِ فِي الحَاكِمِ وَظَنِّ الجَوْرِ بِهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَعْصُومٍ» [4].

#المجيدي

مفصل تفسير سورة النساء


[1] التحرير والتنوير (5/ 109)، وقال: «وَلَيْسَتْ (لَا) هَذِهِ هِيَ الَّتِي تَرِدُ مَعَ فِعْلِ القَسَمِ مَزِيدَةً وَالكَلَامُ مَعَهَا عَلَى الإِثْبَاتِ، نَحْوَ: ﴿لَا أُقْسِمُ (القِيَامَة: 1) وَفِي غَيْرِ القسم نَحْو: ﴿ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتابِ (الحَدِيد: 29)، لِأَنَّ تِلْكَ لَيْسَ الكَلَامُ مَعَهَا نفي».

[2] التحرير والتنوير (5/ 111).

[3] في تفسير الرازي (10/ 121): «وَفِي هَذِهِ الآيَاتِ دَلَائِلُ عَلَى أَنَّ مَنْ رَدَّ شَيْئًا مِنْ أَوَامِرِ اللَّه أَوْ أَوَامِرِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الإِسْلَامِ، سَوَاءٌ رَدَّهُ مِنْ جِهَةِ الشَّكِّ أَوْ مِنْ جِهَةِ التَّمَرُّدِ..».

[4] التحرير والتنوير (5/ 112).


الكلمات المفتاحية: أهم قانون كلي يمنع الوقوع في شرك الطاعة ثلاثية الإيمان الصادق