ما الفرق بين الحَذَر وَالحِذْر؟
7 أكتوبر، 2023
772
لكلمات القرآن دلالات عظيمة في بناء المعارف الحقة لدى الإنسانية، وإن التعبيرات المتنوعة تثري الفكر البشري بمعاني متعددة ومن ذلك وجود الفرق بين الحَذَر وَالحِذْر، فـ(أَخْذُ الحِذْر) يكون بعد (أَخْذِ الحَذَر)؛ فالحَذَرُ هو التيقظ الناتج عن الخوف المترقب، وهو يؤدي إلى البحث عن كيفيةِ الاحترازِ والحمايةِ من أمور مخيفة، وهذا ينقلنا إلى المرحلة الثانية، وهي أَخْذُ الحِذْر الذي يعني الاستعداد للأخطار المتوقعة، فأخذ الحَذَر يعني قبول الخوف الذي يجعل الإنسان متيقظًا للخطر، وأخذ الحِذْرِ يعني الانتقال من مرحلة الخوف المتيقظ إلى الاستعداد لمواجهة الأخطار المتوقعة.
وذلك مثل الحذر من أخطار الحساب في الآخرة التي ذكرها الله في قوله عزَّ وجلَّ: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} [الزمر: 9]، أو الحذر من مراقبة الله لعبده ومحاسبته القادمة، وأخذ الحذر يجعله حَذِرًا من أن يقع في الأخطاء والخطايا، وتستنشق عبير هذه الفائدة من قول الله جل شأنه: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]
وهذا التفريق بين الحَذَر وَالحِذْر أولى مما قرره بعض المفسرين من أنهما بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَالإِثْرِ وَالأَثَرِ وَالمِثْلِ وَالمَثَلِ، وتفصل لك ذلك هَذِه الآيَة المباركة: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء: 56] ففيها قراءتان: الأولى قراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو ويعقوب ﴿ حَذِرُونَ ﴾ بدون ألف، والثانية ﴿حَاذِرُونَ﴾ وهي قراءة الكوفيين وابن عامر بخلف هشام ، وكلتا القراءتين تصوران استراتيجية أخذ الحذر على أعلى نطاق وفق مشهدين، وهذا متوقع من القوة الفرعونية التي كانت تعد القوة العالمية الأولى في ذلك الزمان:
فالمشهد الأول تصوره القراءة الأولى: ﴿حَذِرُونَ﴾ حيث تصور فرعون وهو يصدر بيانًا عامًا لشعبه حول استعداده لمواجهة الإسرائيليين، فقال: ﴿وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ﴾ أَي إنَّا نخَافُ شَرَّهُم لكنه ليس خوفًا سلبيًا بل نخاف من تحركاتهم خوفًا دفعنا إلى مراقبتهم، فقد قدمت لنا مخابراتنا الأمنية التقارير الكافية حول التحركات الإسرائيلية المسلمة، أي أخذنا الحَذَر منهم.
والمشهد الثاني تصوره قراءة الكوفيين ﴿حَاذِرُونَ﴾ بالألف يعني بعد أن خِفنا شرهم وأمدتنا أجهزتنا الأمنية بتحركاتهم، فقد أعتدنا لهم جيوشنا التي ستفتك بهم وتعيدهم، ولذا زعم رواة التاريخ أن فرعون هيأ عددًا كبيرًا من جيشه (قيل ستمائة ألف) لملاحقة بني إسرائيل، فالبداية ﴿حَذِرُونَ﴾ بمعنى خائفون من شرهم نرقب تحركاتهم، والنهاية ﴿حَاذِرُونَ﴾ بمعنى مُسْتَعِدُّون، وكذلك فرق بينهما أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي (ت 393هـ)، فقال: حاذرون: متأهبون. ومعنى حَذِرون: خائفون ، وزاد الزمخشري الأمر إيضاحًا في الفرق بين الكلمتين، فقال: رجل حذر: متيقظ محترز، وحاذر: مستعد. كما قال الشاعر:
فلا غَرْوَ إلا يومَ جَاءَتْ مُحَارِبٌ
إلينا بألفٍ حاذِرٍ قَدْ تَكَتَّبَا
لأن الفَزِعَ متيقظٌ ومتأهبٌ .
وبذا فإن أخذ الحِذْر يقتضي التخوف الإيجابي الذي يؤدي إلى التيقظ وعدم الغفلة، أي: تيقظوا وافزعوا، ويترتب على ذلك أن تنظروا إلى الأحداث على وفق منهجية المؤامرة إن كان في الوقائع ما يشير إليها، وإنه ليطول عجبك ممن ينفي نظرية المؤامرة، فيقول: أنتم دائمًا تزعمون أن الدينا كلها مؤامرة وهذا كله يدل على كسلكم، والأمر على العكس مما يقوله، فزعمنا بوجود مؤامرة لوجود المؤشرات الواقعية والنصوص القطعية التي تدل عليها، وهذا الزعم جزء من استراتيجية أخذ الحذر، وشعورنا بذلك يؤدي إلى ما قاله أرنولد توينبي في نظريته «الحركة والخوف والاستجابة»؛ إذ ذلك يدفعنا إلى الـمرحلة الثانية التي عبرت عنها قراءة: ﴿وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ﴾، أَي: مُسْتَعِدُّون متأهبون متيقظون لا نياماً كسالى واهمين..
#المجيدي
مفصل تفسير سورة النساء