المقالات

ما سبب ذكر كلمة {نَصِيبٌ} للشفاعة الحسنة وكلمة ﴿كِفْلٌ﴾ للشفاعة السيئة؟

جمال الكلمة القرآنية (27)

استخدم القرآن الكريم لفظ الشفاعة مرتين ولكن اللفظ المعبر به عن النتيجة قد تنوع، فقد استخدم القرآن كلمة {نَصِيبٌ} للشفاعة الحسنة وكلمة ﴿كِفْلٌ﴾ للشفاعة السيئة فما سر هذا التعبير؟

قبل أن نبين تلك الأسرار نوضح أن النصيب هو القدر المحدد من نَصَبَ الشيءِ: أقامه ووَضعُهُ وضعاً ناتئاً كنَصْبِ الرُّمْحِ والبِنَاء والحَجَرِ، قال النابغة الذُّبيانى:

ظَلَّت أَقاطِيع أَنْعامٍ مُؤبَّلة

لَدَى صليبٍ على الزَوْراءِ مَنْصُوب[1]

فكلمة (نصب) تدُلُّ عَلَى إِقَامَةِ شَيْءٍ وَإِهْدَافٍ فِي اسْتِوَاءٍ، ولأن الشيء المنصوب يظل على حاله لا يتغير في إقامته يتخيل المرء معه لو كان الإنسان مكانه التعب والعناء، ولذا قالوا: النُّصْبُ والنَّصَبُ: التَّعَبُ: العَنَاءُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الإِنْسَانَ لَا يَزَالُ مُنْتَصِبًا حَتَّى يعْيا، وقرئ: {بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]، والنَّصِيبُ: الحَظُّ المَنْصُوبُ أي: المُعَيَّنُ المحدد الذي صار في حكم المرصود لشخص فلا يمنع منه، ولا يحوزه غيره[2]، ومن ذلك قوله تعالى: { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ} [النساء: 53]، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 23]، وهذَا نَصِيبِي، أَيْ حَظِّي. وَهُوَ مِنْ هَذَا، كَأَنَّهُ الشَّيْءُ الَّذِي رُفِعَ لَكَ وَأَهْدَفَ.

فاختيار التعبير بالنصيب هنا:

أولًا: يتناسب مع الأنصبة التي قسمها الله في الحقوق التي جعلها للرجال والنساء من الإرث وغيره بداية من قوله جل ذكره: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 7].

ثانيًا: يدل على أن الخير والأجور المترتبة على الشفاعة الحسنة ستكون كالشيء المنصوب الظاهر الذي يعود للشافع؛ إذ قد يترتب على شفاعته الأضعاف المضاعفة من الخير بسبب المشفوع له.

ثالثًا: يدل على أن الشفاعة الحسنة قد يقترن بها النصب أي: التعب والإعياء؛ لتحقق أهدافها، فلا يحجزه النصب عن رؤية الفجر في النصيب الذي سيحصل له من الخير ورفعة المكانة عند الله جل في علاه.

وأما التعبير بكلمة ﴿كِفْلٌ﴾ في الشفاعة السيئة: فالكفل أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى تَضَمُّنِ الشَّيْءِ لِلشَّيْءِ، والكَفَالَةُ: الضّمان، تقول: تَكَفَّلَتْ بكذا، وكَفَّلْتُهُ فلاناً، والكَفَل -محركة- العَجُز، ومِنْ ذَلِكَ الكِفْلُ: كِسَاءٌ يُدَارُ حَوْلَ سَنَامِ البَعِيرِ، وَيُقَالُ هُوَ كِسَاءٌ يُعْقَدُ طَرَفَاهُ عَلَى عَجُزِ البَعِيرِ لِيَرْكَبَهُ الرَّدِيفُ كأنه يضمن للراكب الثبات، وللبعير الإمكانية المريحة لحمل راكبه، ونتج من إطلاق الكفل على الكساء أو على عجز الدابة أن يقولوا لِلرَّجُلِ الجَبَانِ كِفْلٌ، فهُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي آخِرِ الحَرْبِ إِنَّمَا هِمَّتُهُ الإِحْجَامُ فيكون في مؤخّر الحرب بغية التأخر والفرار فَهَذَا إِنَّمَا شَبَّهَ بِالكِفْلِ؛ لأنَّهُ مَحْمُولٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَشْيٍ وَلَا حَرَكَةٍ، شَبَّهُوهُ بِالكِفْلِ[3]، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

أَعْيَا فَنُطْنَاهُ مَنَاطَ الجَرِّ

ثُمَّ شَدَدْنَا فَوْقَهُ بِمَرِّ[4]

وكأنه يحتاج إلى من يقوم به، ويهتم به كما يحتاج الكفل الذي على البعير إلى من يربطه، ويقيمه ليعين الآخرين. وبذا يكون اختيار التعبير بالكفل في الشفاعة السيئة هنا في قوله: {يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا}:

أولًا: يتناسب مع حجم الضمان الذي سيتحمله الشافع، فالفساد الذي أوقعته شفاعته بتقديم المشفوع له على غيره يتفاوت من شخص إلى آخر، فهناك الفساد الذي سيحدثه المشفوع له، وهناك الفساد الذي سيحدثه سيطرة المشفوع له على مكانٍ لا يستحقه بدلًا من الصلاح الذي كان سيحدثه من يستحق الشفاعة الحسنة.. الشافع ضامن في ذلك كله.

فالكفل هو النصيب المحدد من الوزر الذي سيكتسبه، وهو مكفول مضمون لا يظن أنه يفوته، ولذلك قالوا: إن الشفاعة السوء تبدأ من طلب الشيء لمن لا يستحق وتصل إلى إعانة الجماعة المخذولة المخذلة المبطئة التي تبيت غير ما جاء في التوجيهات النبوية، وتشمل أداء الأمانات إلى غير أهلها، وتولية المسؤوليات لمن لا يقوم بحقها، والشفاعة التي يبطل به حق، ويحق بها باطل من أعظم مدمرات المجتمع.

ثانيًا: يتناسب التعبير بالكِفْلِ مع المعنى السيء للكفل، فهو العجز أو الشيء الرّديء، بسبب أنّ الكفل لـمـّا كان مركبا ينبو براكبه صار متعارفا في كلّ شدّة، كالسّيساء، وهو العظم النّاتئ من ظهر الحمار، ويقال: لأحملنّك على الكفل، وعلى السّيساء، فيكون معنى الآية: من ينضمّ إلى غيره معينا له في فعلة حسنة يكون له منها نصيب، ومن ينضمّ إلى غيره معينا له في فعلة سيئة يناله منها شدّة[5].

ثالثًا: وقيل: الكِفْلُ الكَفِيلُ، ونبّه أنّ من تحرّى شرّا فله من فعله كفيل يسأله، كما قيل: من ظلم فقد أقام كفيلا بظلمه، تنبيهًا أنه لا يمكنه التّخلّص من عقوبته[6].

رابعًا: أما قوله  في سورة الحديد: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: 28] أي: كفيلين من نعمته في الدّنيا والآخرة، وهما المرغوب إلى الله تعالى فيهما بقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 201] وقيل: لم يعن بقوله: ﴿ كِفْلَيْنِ ﴾ أي: نعمتين اثنتين بل أراد النّعمة المتوالية المتكفّلة بكفايته، ويكون تثنيته على حدّ ما ذكرنا في قولهم: (لبّيك وسعديك)[7].

ويرى الدكتور حسن جبل أن المعنى المحوري يدور حول الادّعام على الشطر الخلفي من الشيء كالعَجُز للدابة والإنسان، ولُحِظ في الكساء المذكور أنه يدعَم الراكبَ على مؤخَّر ظهر البعير، أي يثبتِّه[8].

والظاهر عندي أنه لوحظ في التعبير عن الأجور في آية الحديد أن الله يحبو المؤمنين بكفلين من رحمته تثبتهم من الأمام والخلف أو عن أيمانهم وبين أيديهم كما في نور الصراط يوم القيامة، والتعبير بالكفل هنا أقوى من التعبير بالنصيب، حيث يتصور المرء أنه أمر خارجي حيث تتضمن الشفاعة السيئة عون من لا يستحق لينال ما لا يحق، وذلك دعم له فكوفئ الشافع من جنس فعله؛ إذ يحمل وزره وأوزارًا متراكمة بسبب فساده، وإيصاله فاسدًا إلى مكان يفسد فيه بسبب شفاعته.

خامسًا: وكلمة نصيب في سورة النساء بنيت على الفرحة، وتنبئ عن عطاء، أما كلمة كفل فقد تدل على فرحة كما في سورة الحديد: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: 28] أو على الحزن كما هنا، فكلمة ﴿كِفْلٌ﴾ تدل على ثقل شديد مضمون وعلى مسؤولية حقيقية، كما أن الكفل هو الكساء الذي يغطي سنام البعير، والكفيل يضمن غيره، فهو تنبيهٌ إلى مدى مسؤوليته عن نتائج هذه الشفاعة السيئة التي بها بطَّأ عن الخير، أو أسهم في زيادة الشر والأشرار.

و «الحُكُومَةَ الَّتِي تَرُوجُ فِيهَا الشَّفَاعَاتُ يَعْتَمِدُ التَّابِعُونَ لَهَا عَلَى الشَّفَاعَةِ فِي كُلِّ مَا يَطْلُبُونَ مِنْهَا لَا عَلَى الحَقِّ وَالعَدْلِ، فَتَضِيعُ فِيهَا الحُقُوقُ، وَيَحُلُّ الظُّلْمُ مَحَلَّ العَدْلِ، وَيَسْرِي ذَلِكَ مِنَ الدَّوْلَةِ إِلَى الأُمَّةِ فَيَكُونُ الفَسَادُ عَامًّا» [9].

والآية تحذر من الفساد الكبير الذي يحل بالمؤسسات والمجموعات الإسلامية من جراء الشفاعات السيئة التي يتم بها تولية المناصب، وتوزيع الأدوار على غير المتأهلين، مما ينتج عنها البوار والخسار والدمار، وهنا يبتعد من الصف المسلم المستنبطون الحقيقيون عندما توجد الشفاعة السيئة؛ إذ يصل بها من لا يستحق إلى منصب أولي الأمر المستنبطين فيدمرون الصف المسلم؛ إذ لا يستطيع أولئك اتخاذ القرارات المناسبة في اللحظات المناسبة. وبذا فإن الشفاعة قد تسبب أحسن النتائج إذا كانت حسنة، وتسبب أسوأ النتائج إذا كانت سيئة.


[1] ديوان النابغة الذبياني (ص: 4)92).

[2] انظر: تفسير المنار (5/ 249).

[3] انظر: المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني (ص: 718).

[4] انظر: لسان العرب ط دار المعارف (6/4176).

[5] انظر: المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني (ص: 718).

[6] السابق(ص: 718).

[7] السابق (ص: 717).

[8] المعجم الاشتقاقي المؤصل، دمحمد حسن جبل (4/909).

[9] تفسير المنار (5/ 251).


الكلمات المفتاحية: ما سبب ذكر كلمة {نَصِيبٌ} للشفاعة الحسنة وكلمة ﴿كِفْلٌ﴾ للشفاعة السيئة ما سبب ذكر كلمة {نَصِيبٌ} للشفاعة الحسنة وكلمة ﴿كِفْلٌ﴾ للشفاعة السيئة؟