المقالات

ما علاقة تدبر القرآن الكريم بالأمن الداخلي والسلام الخارجي؟

أ.د/ عبد السلام المجيدي

{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } [النساء: 82]

في سياق الكلام عن استراتيجية أخذ الحذر وعن مبادئها في الآيات القرآنية من (71) إلى (104) من سورة النساء، يذكر القرآن قانونا مهما وهو أن تدبر القرآن المجيد من أهم أركان الأمن الداخلي والسلام الخارجي. فيجب تدبره على المستوى الفردي والمؤسسي؛ للوصول إلى إدراك إعجازه، ولاستخلاص كيفية التعامل مع قضايا العالـم الصغيرة والكبيرة، وخاصة ما يتعلق بالسياسات الإصلاحية والأمنية التي تعين على تحقيق المفهوم الصحيح للسلام، وللنظر في البيان القرآني لمرجعية السنة النبوية، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } [النساء: 82].

 هنا الخطاب للجميع المؤمن والكافر، ولكن سياق الآية يدل على أنه للمؤمنين ليكون التدبر ضمن استراتيجية إحلال السلام ومرجعًا للاستراتيجيات الأمنية والعسكرية، والقرآن يدمج في خطابه عددًا من الأصناف، وهذا من أساليب القرآن التي ينبغي الانتباه لها، فمثلا الواو في قوله ﴿ يَتَدَبَّرُونَ واو الجماعة تدمج في ثناياها عددًا من الفئات كلٌّ بحسب حاله، فالمسلم مطالب بأن يتدبر القرآن ليستخرج كنوزه، وغير المؤمن يتدبر القرآن ليتم الكشف المنطقي حول أي الفرق أهدى سبيلًا، وهل القرآن حق أم لا، فلا يحكم غيابيًا، والقرآن يتسم بشيء مميز فهو يحمل في ثناياه الدليل على صدقه، وهذه الآية تدل على وجوب التدبر على جميع المسلمين، وأن التدبر فرض عين وليس فرض كفاية، وفرق بين التدبر وتقرير العلم المراد، فتقرير العلم المراد يعود للمفسرين الذين قال الله عنهم {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وقال عنهم {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].

والقرآن لابد أن يؤخذ جميعًا، فالذي مثلا يريد أن يحاكمه فلابد أن يأخذ جميع آياته، إذا أردت أن تقول هذا حق أو هذا باطل، فلا تقرأ هذه الآية وتترك تلك الآية، كما تبصرنا هذه الآية بأن من وسائل التعامل مع المتلاعبين بالطاعة النبوية عرض القرآن عليهم ليجدوا فيه الأدلة البرهانية على صحة الرسالة، وهذا نوعٌ من الخطاب الذي يعيدهم إلى العقل والفكر، فيرجع غير المعاندين منهم عن غيهم، والآية تحثهم على تدبر القرآن الكريم لاستخلاص كيفية التعامل مع قضايا العالم الصغيرة والكبيرة، وانظر للفظ الآية كيف يهيج التفكير عند المسلمين المسؤولين بإظهار المعجزة القرآنية، كما يثير التفكير عند تلك الطوائف المتخلخلة الشاكَّة، فالفَاءُ تَفْرِيعٌ عَلَى الكَلَامِ على قوله تعالى: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80] ، أي: أفلا يتدبر المسلمون القرآن فيزدادوا يقينًا بالله؟.. أفلا يتدبر الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة القرآن، فيتبعون ما يجب عليهم حسب ما تقتضيه المرحلة؟.. أفلا يتدبرون القرآن فيتبعون ما يجب عليهم عندما يكتب عليهم القيام بنصرة المستضعفين؟ أفلا يتدبرون الذين يزعمون أن الحسنة من عند الله وأن السيئة من النبي صلى الله عليه وسلم، أو من الذين يأمرون بالقسط من الناس القرآن، ليعلموا أن كلًا من عند الله من حيث الإنشاء؟ أفلا يتدبر الناس القرآن ليعلموا أن الله هو مالك الخلق والتغيرات الكونية؟ أفلا يتدبرون القرآن ليعلموا أنهم لا بد أن يطيعوا النبي صلى الله عليه وسلم {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]؟ أفلا يتدبرون القرآن ليعلموا أن تذبذبهم في الطاعة يؤدي إلى خسارتهم الدنيوية والأخروية، فالنبي صلى الله عليه وسلم لن يجبرهم على الاختيار الإيماني {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } [النساء: 80]؟ أفلا يتدبر القائمون على الأمن القرآن ليبين لهم استراتيجيات الأمن القومي الذي به يحفظون أمن مجتمعاتهم؟ فالقرآن خطاب للجميع، والله سبحانه وتعالى يأمر ويحض على تدبر القرآن.

أفلا يتدبر القرآنَ هؤلاء الذين يقولون {طَاعَةٌ} [النساء: 81] بألسنتهم ثُمَّ يبيتون العصيان إما إصرارًا على نصرة الفسق أو لتعمق الشك في قلوبهم في صدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؟ ويزجرهم الله عن هذا العناد، وذلك الشك بالاستفهام الإنكاري التوبيخي؛ إذ ما بعد الاستفهام واقع، وفاعله ملوم، فهم لا يتدبرون القرآن، وتلك علامة تدل على ضعف عقولهم..

والتدبر مشتق من الدبر وهو الظهر، فتدبر الأمر، أي: نظر في عاقبته ومآلاته وما يقف خلفه من نتائج، ولذا يقولون: لا تَدَبَّرُوا أَعْجَازَ أُمُورٍ قَدْ وَلَّتْ صُدُورُهَا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، أَيْ لَوْ عَرَفْتُ فِي صَدْرِ أَمْرِي مَا عَرَفْتُ مِنْ عَاقِبَتِهِ»، فقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82] حثٌّ على إعمال الفكر في معرفة المعاني التي تختبئ خلف كلمات القرآن دون تحريف أو تلاعب، ودلالة مفردات كلماته وجمله ومجموعه على أنه من عند الله ليزول شك الشاكين، ويزداد المؤمنون إيمانًا.. ومن أهم الدلائل القرآنية على صدق نبوة النبي مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أربعة أوجه:

أحدها: فَصَاحَتُهُ، فلا يمكن أن يصل إلى تلك الفصاحة الآسرة ما قاله امرؤ القَيْسِ إِذَا رَكِبَ، وَالنَّابِغَةُ إِذَا رَهِبَ، وَزُهَيْرٌ إِذَا رَغِبَ.

 وَثَانِيهَا: اشْتِمَالُهُ عَلَى الإِخْبَارِ عَنِ الغُيُوبِ الماضية والحاضرة والمستقبَلة.

وثالثها: نظمه المدهش المتوازن الحاوي لعلوم الهداية التربوية والسلوكية والمعرفية حول التعريف بالله، وبالإنسان، وحقيقة الكون، ومصيره.

وَالرابع: سَلَامَتُهُ عَنِ الِاخْتِلَافِ [1]، فمن أعظم ما يستدل به على أنه من عند الله مجموعه لذا قال:  {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } [النساء: 82] أي لو كان من بشر لوجدوا فيه اختلافًا باضطراب المعاني الواردة فيه، واختلافًا بين الغيوب التي أخبر بها عن الماضي والحاضر والمستقبل وبين واقع تلك الغيوب، وعن خلجات النفوس ومخبآت الضمائر واختلافًا لما يصف مع واقع قلوبهم وأحوالهم، وهو الذي يصف ما في قلوبهم وصف المطلع عليها، والتقدير امتنع أن يوجد فيه اختلاف من أصله فضلًا عن الاختلاف الكثير، فهو من عند الله، ويلخص الطبري ذلك فيقول: «أفلا يتدبر المبيتون غير الذي تقول لهم، يا محمد كتاب الله، فيعلموا حجّة الله عليهم في طاعتك واتباع أمرك، وأن الذي أتيتهم به من التنزيل من عند ربهم، لاتِّساق معانيه، وائتلاف أحكامه، وتأييد بعضه بعضًا بالتصديق، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق، فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه، وتناقضت معانيه، وأبان بعضه عن فساد بعض» [2]، ولاحظ أن الاختلاف المنفي هنا مطلق فيقيد بالحقيقة العرفية أي اختلاف التناقض لا اختلاف التنوع «لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا اخْتِلَافُ أَلْفَاظِ القِرَاءَاتِ وَأَلْفَاظِ الأَمْثَالِ وَالدَّلَالَاتِ وَمَقَادِيرِ السُّوَرِ وَالآيَاتِ. وَإِنَّمَا أَرَادَ اخْتِلَافَ التَّنَاقُضِ وَالتَّفَاوُتِ [3]، فاختلاف التنوع منقبة يُتمدح بوجودها، وليست مثلبة.

ومن أعظم حقائق ذلك أنه الدستور الذي تحتاجه البشرية دائمًا لينظم أحوالها.. ولا يمكن أن يختلف ما يصفه عن الواقع الذي تحتاجه، فلا تستطيع البشرية مهما بذلت أن تأتي فِي بَيَانِ أُصُولِ العَقَائِدِ، وأنظمة الحياة، وَقَوَاعِدِ الشَّرَائِعِ، وأسس الأخلاق، وإدارة الشعوب، وسياسة الناس، وقوانين الاجتماع، وسنن العمران، والأمثال المحكمة الحاكمة، وفنون القول في الخلق والتكوين، وبناء الكون، وأنظمة الطبيعة في البحار والنباتات والجبال والحيوان والجماد «مَعَ اتِّفَاقِ جَمِيعِ الأُصُولِ، وَعَدَمِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ فِي شَيْءٍ مِنَ الفُرُوعِ» [4]، ويكفي أن تسأل الإدارات المتعاقبة المتناقضة في أعظم امبراطورية حاضرة حول كيفية حل مشكلة متطاولة هي المشكلة العنصرية مثلًا.. في حين لا تعرف بلاد الإسلام هذه المشكلة إلا عندما تزيح الإسلام من منصة الحكم.

وتدبر القرآن فرضٌ غاب عن ساحة المسلمين، وعبادةٌ ضاعت وتم التفريط فيها، فضاع مجدهم وذهب مع ذهابها، فقد استنبط محمد رشيد رضا ذلك، فقال: «وَفِيهِ أَنَّ تَدَبُّرَ القُرْآنِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ لَا خَاصٌّ بِنَفَرٍ يُسَمَّوْنَ المُجْتَهِدِينَ» [5].

وتدبر القرآن ينمو كلما أدمن المرء تلاوة آياته، والنظر فيها، نعم ليست الكثرة التي تأتي بهذرمة أي بسرعة قراءة غير مفهمة، ولكن الكثرة التي تأتي عن قراءة واعية، وقد تعجب من بعض الناس يخصصون لبرامجهم المفضلة ساعة أو ساعتين، فكم يعطي للقرآن في حياته.. فكم قست قلوب لبعدها عن كلام ربها.

ولكن التدبر ينبغي أن يخضع لسؤال المستنبطين وأهل العلم والذكر، فذاك أمرٌ واجب خشية الوقوع في الجهل، أو مفاجأة سوء الفهم، وهذا يقتضي إنشاء المؤسسات العلمية المختصة بالدراسات القرآنية التي تشكل مراكز لمراجعة القرارات الاستراتيجية في المجتمعات، فسبب مجيء هذا الأمر في هذه الآية المباركة: حث هذا الصنف من المؤمنين على عدم تحويل القرآن إلى مجرد رسوم تقرأ دون فكر أو تدبر أو إعمال للآيات في الواقع المعاش، فلو كان من عند غير الله لوجدوا فيه تناقضات واختلافات عظيمة في المعاني الواردة فيه، وهذا ينتج ضرورة إنشاء المراكز والجامعات والمعاهد التي تنشر القرآن الكريم، وتستخلص كيفية معالجاته المختلفة للواقع البشري الذي تستجد فيه القضايا، ويقرر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فيقول: «مهلًا يا قوم. بهذا أُهلكت الأمم من قبلكم: باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعضٍ: إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضًا. بل يصدق بعضه بعضًا. فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه» [6]، وفي رواية عن عبد الله بن عمرو قَالَ هَجَّرْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا -قَالَ- فَسَمِعَ أَصْوَاتَ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي آيَةٍ فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الغَضَبُ فَقَالَ: «إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِاخْتِلاَفِهِمْ فِي الكِتَابِ» [7].

فيزجرهم الله عن الإعراض عن القرآن بالاستفهام الإنكاري التوبيخي؛ إذ ما بعد الاستفهام واقع، وفاعله ملوم، فهم لا يتدبرون القرآن، وتلك علامة تدل على ضعف عقولهم، والتدبر مشتق من الدبر، وهو الظهر، فتدبر الأمر، أي: نظر في عاقبته ومآلاته، أي: أعملوا الفكر في معرفة الـمعاني التي تختبئ خلف كلمات القرآن، دون تحريف، أو تلاعب، ومن أعظم ما يستدل به على أنه من عند الله مجموعه؛ لذا قال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا }.


[1] وانظر: تفسير الرازي (10/ 151).

[2] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 567).

[3] تفسير القرطبي (5/ 290).

[4] تفسير المنار (5/ 234).

[5] تفسير المنار (5/ 240)، وذهب الرازي في تفسيره (10/ 152) إلى أن الآيَة دلت عَلَى وُجُوبِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَعَلَى القَوْلِ بِفَسَادِ التَّقْلِيد.

[6] أحمد(2 /181)، وقال الأرناؤوط: صحيح وهذا إسناد حس.

[7] صحيح مسلم ( 8 / 57)، برقم 2666.


الكلمات المفتاحية: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } [النساء: 82].