المقالات

مــا الأسس التي بنيت عليها التشريعات القرآنية في آيتي المواريث؟ 

أ.د/ عبد السلام المجيدي

من أسس التشريعات القرآنية

أول ما ينبغي الشعور به في ضمير وعقل ووجدان المسلم هو قوة التشريعات القرآنية ومنها أحكام المواريث في إصلاح الواقع الإنساني.

 فهي تعكس الوصية الإلهية التي تحمي الـمصالح الإنسانية العليا، فمثلا عندما بين الله أسس التقسيم الدقيق للمواريث، بصرنا بعدها بالأسس العظيمة للتشريعات القرآنية فقال {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 12 – 14].

وتلك الأسس نبينها كما يأتي:

الأساس الأول:

يُبَصِّرُنا به قوله -تعالى مجدُه- ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾، فهذا التقسيم وصية الله أي عهده الذي افترض على عباده أن يأخذوا به، وينقلوه إلى الأجيال بعدهم، يتواصون به، ويشعرون بالثقة الكاملة فيه فهو من الله وليس من الاجتهادات البشرية.

والوصية منه تدل على رحمته بعباده، وحبه لإقامة مصالحهم، ورفقه بهم حيث اختصر لهم مسافة ما ينفعهم فدلهم عليه بدلًا من أن يتعبوا في سبيل الحصول على معرفته، وبدلًا من أن يجربوا السبل المختلفة للاطلاع عليه ثم تراهم لا يصلون إليه.

الأساس الثاني:

قيام هذا التقسيم الفرائضي الدقيق على العلم الكامل، وعلى الحلم الذي يقابل الخلل التطبيقي الذي يطرأ منكم، ليمدكم بالفرص المتتابعة عسى أن تصلحوا أوضاعكم، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله -عزَّ جارُه- {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 12]، فوصف نفسه العلية جل في علاه بصفتين:

الصفة الأولى: ﴿عَلِيمٌ﴾ أي والله ذو علمٍ بمصالح خلقه ومضارِّهم، ومن يستحق أن يعطى من أقرباء من مات منكم وأنسبائه من ميراثه، ومن يحرم ذلك منهم، ومبلغ ما يستحق به كل من استحق منهم قسمًا، فأقام هذه القواعد الدقيقة العميقة في المواريث على أساسٍ من العلم بمصالحكم وما ينفعكم، ويظهر أن صيغة المبالغة أو الصفة المشبهة ﴿عَلِيمٌ﴾ تدل على أن علمه كاملٌ وذاتي كما أشار إليه الطبري حيث قال: العالم من غير تعليم.

والصفة الثانية: ﴿حَلِيمٌ﴾ فاعل من حَلُمَ، والحليم الذي لا يُعجِّل بالعقوبة والانتقام، ولا يحبس إنعامَه عن عباده لأجل الذنوب العِظام، بل يرزق العاصي كما يرزق المُطيع، وهو ذو الصَّفح مع قدرته على عقوبة عباده.

وأردف العلم بالحلم لأن العلم يحمل معنى الخبرة التامة بما ينفع الناس كما يحمل معنى الاطلاع على التطبيق الناقص أو المشوه، أو من يظلم منهم في استيفاء هذه الحقوق، فكلمة ﴿عَلِيمٌ﴾ تتضمن أمرين:

 أنه أعلم بمصالحكم، وأنه العليم بأفعالكم وهنا تتضمن الإنذار والوعيد للمخالف، فأراد أن يبين أن عدم نزول العقوبة لمن خالف ليس دليلًا على الغفلة عنه، لذا أردف ذلك بقوله ﴿حَلِيمٌ﴾، فالحلم فتحٌ لسعة رحمته لمن أذنب وفرط، وفتحٌ للباب لمن أراد أن يراجع نفسه.

الأساس الثالث: من أسس التشريعات القرآنية ضمان الكرامة الفردية، والسلامة البشرية، والسعادة الإنسانية في الحياة الدنيا عند الالتزام بالتنظيم الحقوقي الدقيق الذي تجد حدوده واضحة في التشريع الإسلامي، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [النساء: 13] فاسم الإشارة هنا للتفخيم والتعظيم والاعتزاز.

لماذا سمى الله توجيهاته وفرائضه حدودًا؟

لأن حدود الله تشريعاته المنظمة للحياة التي تفصل بين الإنسانية وبين الخسارة والدمار، وبناء على البقاء ضمن هذه الحدود يتحدد المصير المستقبلي الخالد.. فتظهر عظمةَ الحدِّ في أنه يوضح النظم، ويمنع من التباس الحقوق، وتداخلها، كما يمنع أن يتجاوزه أحد إلا أن يكون مجرمًا في حق نفسه أو حق غيره. ولذلك قيل لحدود الدار وحدود الأرضين: «حدود»، لفصلها بين ما حُدَّ بها وبين غيره، وجعل الله فرائضه حدودًا لأن البشر يجهلون بدقة مدى نفع كل واحد منهم للآخر، ولذا ربما غضب أحدهم على ابنه فمنعه الإرث ومنحه للكلب، فبين الله تعالى التقسيم الدقيق للإرث لتنمو الإنسانية وتتوزع الثروة على النساء والرجال بصورة دقيقة تضمن ألا يكون المال دولة بيد أفراد معدودين، ويقابل مقدار التوزيع مدى أفعالهم وطرق استثمارهم.

تذكر الآن: فحدود الله هي جميع فرائضه الشرعية، وتشريعاته المنظمة للحياة.. لا يغرنك أن استعمل الفقهاء هذا المصطلح في العقوبات؛ فإن حدود الله تعني تشريعاته في الإيمانيات.. تشريعاته في العبادات…تشريعاته في المعاملات.. تشريعاته في البيوع والمعاوضات والاقتصاديات.. حدوده تعني تشريعاته في العقوبات.. فحدود الله تشمل جميع التشريعات الإسلامية. {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} جملة تثير في نفسك ضرورة الشعور بعظمة التشريعات والتنظيمات السابقة، والتشريعات والتنظيمات اللاحقة.. فليشرب في قلبك التعظيمَ لكلام العلي الرحيم فإنه يقول: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} فما مغزى اسم الإشارة هنا؟

﴿تِلْكَ﴾ إشارةٌ إلى التشريعات القانونية التي احتواها القرآن المجيد هداية للعالم، ولتعظيمها أشار إليها باسم الإشارة الدال على البعد.. إنه البعد في المكانة والمنزلة.. فإن اسم الإشارة الدال على البعد يؤتى به لغة تفخيمًا للمشار إليه أو تهويلًا وتشنيعًا لحاله:

فأما التشنيع فمثل قوله الملك الحق المبين جل جلاله: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [هود: 59] تلك عادٌ في قوة خلقها، وعظمة حضارتها وشناعة تفكيرها وبؤس اختيارها.

وأما في التعظيم والتفخيم فمثل قول الله -عزَّ جارُه-: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] في عظمة منزلته، وجلالة مكانته، وكماله مصدرًا ومظهرًا ومخبرًا، ومثل قوله جل في علاه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} [فاطر: 13] في عظمته وكماله وجلاله.

وهنا يقول: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي في عظمتها القانونية، وحراستها لمصلحتكم، وقيامها بحقوقكم.. {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} التي توازن بين حقوقكم العقلية وحاجاتكم العاطفية.. {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} التي تجمع بين شهواتكم الجسدية وأشواقكم الروحية.. فإن الحقوق الإنسانية ينبغي التوازن فيها، فقد آخَى النَّبِيُّ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ. قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ. قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ. قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ قَالَ: نَمْ. فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ. قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ فَصَلَّيَا. فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإن لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإن لأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَأَتَى النَّبِيَّ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ «صَدَقَ سَلْمَانُ» ، وزاد النبي في ذكر التوازن بين الحقوق في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: «فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِزَوْرِكَ -أي لضيفك- عَلَيْكَ حَقًّا (زاد مسلم: وإن لولدك عليك حقًا») .. تلك حدود الله التي تجدون فيها التوازن الذي دمرته أهواء الحضارات الأنانية القديمة والمعاصرة.

{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} لماذا أضافها إلى اسمه المعظم جلَّ في علاه؟ لم يضفها إلى الرب كما رأيته في أول السورة عند قوله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1]؟

لأن الإضافة إلى الاسم العظيم (الله) يفيد الإجلال القانوني والشعور بالاعتزاز عند مقارنتها بالحدود التي وضعتها الاجتهادات البشرية.. هذا مقتضى الاسم العظيم (الله).. هذا عطاء هذا الاسم المبجل كما أن مقتضى اسم (الرب) التربية العامة للعاملين بما تقتضيه من الإيجاد والإعداد والإمداد.

وهذه الجملة الدستورية الذهبية تجد مثلها في الكتب السابقة؛ إذ الكل خرج من مشكاة واحدة، ففي سفر اللاويين (18): 1 وكلم الرب موسى قائلا 2 كلم بني إسرائيل، وقل لهم: أنا الرب إلهكم، 3 مثل عمل أرض مصر التي سكنتم فيها، لا تعملوا، ومثل عمل أرض كنعان التي أنا آت بكم إليها، لا تعملوا، وحسب فرائضهم، لا تسلكوا، 5 فتحفظون فرائضي وأحكامي، التي إذا فعلها الإنسان يحيا بها، أنا الرب.

وبناء على التزام تلك الحدود تجد الضمان للسعادة والفوز العظيم في الحياة الأخرى، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13]

أ.د/ عبد السلام المجيدي

مفصل تفسير سورة النساء


الكلمات المفتاحية: المجيدي بصائر بناء التشريعات فلسفة التشريع