د . عامر الخميسي

نورُ السّماءِ لا سِواه

د/ عامر الخميسي

في ظنّي أن أكبر مقطع فديو شوهد في المحيط العربي والإسلامي اليومين الماضيين هو مقطع ذلك الحاج والمسلم الجديد إبراهيم ريتشموند، لقد طار الفديو في الآفاق وشاهده الملايين، وكان مثيرا للغاية باعثا للدهشة ولا زال حيا يتردد صداه وسيبقى كذلك في ظني لشهور وسنوات..
وهنا يشدك العجب حتى يبلغ بك منتهاه وأنت تشاهده وهو يحكي أنه كان قسا يتبعه مائة ألف، قاضيا من حياته خمسة عشر سنة في خدمة الكنيسة، مُخلصا لها من قلبه ليصل إلى أعلى المراتب في دولته، وفجأة يرى رؤيا تقلب حياته رأسا على عقب..

لقد كان مسيحيا مؤمنا شديد الإيمان بها، ثم فجأة بدون مقدمات يرى في منامه من يأمره بأن يلبس هو وأتباعه الملابس البيضاء.

إنها رؤيا عجيبة، ولها دلالات أكيدة لابد من الوقوف عليها واستنطاق أسرارها، يقول حاكيا المشهد:
كنت قسًا لـ15 عامًا على رأس (كنيسة التجمع) في جنوب إفريقيا، التي يتبعها نحو 100 ألف مسيحي، قبل أن تأتيني رؤيا، وأسمع صوتًا يناديني أن آمر رجالي بارتداء الطواقي البيض، فقلت كالمسلمين، كزي المسلمين؟
تتكرر عليه الرؤيا فيقول:
“كنت نائما في غرفة صغيرة بالكنيسة ثم سمعت صوتا يقول أخبر رجالك بأن يرتدوا اللباس الأبيض.. فقلت ثياب المسلمين!”، وتوقع أن يكون ذلك مجرد حلم، إلا أنه تكرر معه من قبل.
تتكرر معه الرؤيا لأن قلبه أبيض يشع بالنور باحثا عن الحقيقة وعن مصدر حقيقي للنور الكوني، وللملابس البيضاء في النوم سر من أسرار النور!!!

_ في المرة الأخيرة أصبح الصوت قويا جدا تدرك ذلك من استغرابه لشدته وهو يصفه ، فتوجه بعدها لأتباعه في الكنيسة، وأخبرهم بالأمر، ودعاهم لتنفيذ ما طُلب منه في المنام دون تردد، ودون قبول مناقشة من أحد !!

هكذا الأمر !!
لا يوجد تفاصيل!!
هيا إلى رحاب النور..

ماذا جرى؟
لقد قبلوا الطلب جميعا دون تلكؤ أو تباطؤ أو تردد لأنه ثقة لديهم لا يمكن أن يشير عليهم إلا بما يسعدهم، وعندما اجتمع بهم للمرة الثانية، ارتدى الجميع الملابس البيضاء ودخلوا الإسلام، وقد كانت فرحته غامرة لا توصف.

_ وللدهشة فقد أسلموا جميعا ولم يتخلف منهم أحد الأمر الذي جعله يستغرب فقول “هل تتخيلون إلى أي مدى يسّر الله هذا الأمر؟”. وفي الاجتماع التالي حضروا وجميعهم يرتدي الطواقي البيض، و نطق إبراهيم الشهادة بأن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، داخل الكنسية والحشد يردد وراءه الشهادة في منظر مهيب تقشعر له الأبدان .
يتابع روايته بتأثّر والدموع تملأ عينيه “آلاف الأصوات كانت تردد معي الشهادة، كنا سعداء”.

كيف حج هذا العام؟
وكيف كيف كانت ردة فعله عندما تناهى الخبر إلى مسمعه؟
وكيف وصل إلى البيت العتيق؟
وكيف كانت فرحته؟
يقول:” أما عن القصة وراء حجي هذا العام، فلقد أخبروني بأني سأذهب لأداء الحج هذا العام، قلت أنا؟ هذا مستحيل، لابد أنكم تمزحون، ولكن تحققت أمنية إبراهيم التي اعتقد أنها بعيدة.”

كان يظن أن الوصول إلى البيت العتيق الذي بناه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام من الأمور البعيدة، ولربما لم يفكر في ذلك حاليا لا سيما أنه للتو دخل الإسلام قبل ثلاثة أشهر، ويبدو لي أن جهةً حكومية خليجية أو جهة خيرية مرموقة أرادت أن تُقدم له هذه المكافأة لأهميته في جنوب أفريقيا ولما يتمتّع به من شعبية كبرى هناك، وأرجح أن من استضافه مركز الملك سلمان لأمرين في ظني:
كونه ظهر وخلفه لافتة مكتوب عليها ضيوف الملك سلمان.
ثانيا: نشر قصته مكتب الاتصال الحكومي بالسعودية، عبر حسابه الرسمي.
الشيء الذي يهمنا هنا كيف يمكن أن يفسر الإنسان ما حدث له؟
كيف يمكن لرؤيا منامية أن تصل إلى هذا الصدى في العالمين وهو يحكيها بطريقته الماتعة المؤثرة المثيرة؟

لا تستطيع إلا أن تقول إنه نور السماء الذي سطع في قلبه فأدرك أسرار الهداية، وإنه ليصل عالمُ فلك إلى أجواز الفضاء ويتعرف على أدلة كونية تدله على الخالق ومع ذلك تجده ملحدا يبارز الله بإلحاده، وتجد عالم بحار يغوص في أعماق المحيطات ويجد من الشواهد ما تسوقه تلقائيا لبعث فطرته نحو الله لكنه يظل في منأى عن الإيمان، وقد تقرأ عن جراح مخ وأعصاب أو طبيب قلب يعرف من أسرار الكتاب المستور _ الجسد_ ما لا يقف عليه أحد في هذه الأرض من دلائل ناصعة على حكمة الله وعظمته وإبداع صنعه وما يجعل العقل البشري يخر ساجدا مؤمنا دون طرفة عين من تردد لكن هؤلاء الأصناف وغيرهم لم يصبهم النور السماوي لطبيعة الاستكبار في قلوبهم، وبالمقابل تجد من يرى رؤيا منامية لا دليلا صريحا من أحد، ولا حجة مقنعة من مناظر فيذعن لتلك الرؤيا ويطير بها قلبه وتتملك مشاعره ليعلن الشهادة حاملا راية النور الوهاجة ؟

إنه النور!
وأي نور؟
نور الله الذي يسطع في القلوب فيمسك بأزمّتها، ويشرق فيها فتعود مضيئة تلمع ضياء ونورا للعالمين..
لقد شاهدتُه مرارا ولم أشبع من مشاهدته ورأيت في قسمات وجهه وانشراح صدره وغبطته بإيمانه ما لو وزّع على أهل الأرض لكفاهم ..

وإذا أحبّ اللهُ باطنَ عبدِه
ظهَرَت عليهِ مواهبُ الفتاحِ

وإذا صَفَت لله نيُّةُ مُصلحٍ
مالَ العبادُ إليهِ بالأرواحِ

” وإذا تجلّى نورُ ربي لا مرئٍ
نالَ السعادةَ واهتدى لفلاحِ “

إن سبب انشراح صدره، وجمال تأثره، وحلاوة منظره، وطلاوة لسانه، هو نور الحق الذي استضاء به، وأودعه الله في قلبه ثم انعكاس هذا النور على جوارحه؛ فاكتسب منه الحياة الحقيقية الطيبة والسعادة الغامرة التي تجل عن الوصف ، قال – تعالى واصفا هذا النور -: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ [الأنعام: 122]، وقال – تعالى -: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ [الشورى: 52-53].

تراه وتسمعه فتتخيل مشاعره هي التي تنطق وقلبه لا لسانه، ثم تراه يتخطّى درجات جبل النور صاعدا ليصل إلى مكان النور الذي كان يغمر قلب الحبيب صلى الله عليه وسلم فكأنه يقول هأنذا أمشي بنور الله لأجتاز كل صعب في الحياة، ولا شيء صعب ما دام نور السماء هو الذي يبعث فيّ القوة..

يبكي عند وصوله إلى جبل النور ويخر ساجدا وكأني به يشعر أنها أجمل وألذ سجدة في حياته ..ييكي بكاء المستزيد من نور السماء، عنده طموح أن يسلم على يديه الملايين من أبناء جنوب أفريقيا، هو فقط يريد أن يعرفهم على النور الذي سطع في منامه فأبهج قلبه، وأنعش حياته، وأسعد نفسه..
عامر الخميسي _ في يوم عيد_ .


الكلمات المفتاحية: قسيس نورُ السّماءِ لا سِواه هداية