هل قوله تعالى {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم أو هو عام؟
17 يناير، 2024
860
مناقشة الإمام الرازي
قوله تعالى {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} بين العموم والخصوص
هذه الآية القرآنية تبصرنا بأحكام كثيرة وبصائر متعددة منها:
أن تخلف الآخرين لا يعني سقوط الواجب عن القادر حسب طاقته، وهنا تظهر استراتيجية الردع بصورة فعالة؛ إذ سيشعر العدو بالرعب عند علمه بأن كلَّ فردٍ موجودٍ سيظل يقاوم مهما اقتضت التضحيات، وبذا ينزل التوفيق الإلهي لكف بأس الـمعتدين، وانتزاع حقوق الـمستضعفين.
وإذا طبقتم هذه الاستراتيجية واتبعتم تلك التكاليف فترقبوا النتيجة العاجلة أو الآجلة: إنها الردع والدفع والرفع، ويُبَصِّرُنا الله بها بقوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} فخيار حماية المستضعفين ورد العدوان لا يسقط بأي حال ما دامت مقتضياته موجودة مهما قل الأنصار؛ إذ هو الأساس لاستجلاب نصر الله تعالى بكف أذى المعتدين، فليس على الرسول صلى الله عليه وسلم ذنب إذا بلغ وحرض ثم لم يطعه أحد، وهذه الآية من أقوى الآيات في وجوب نصرة المستضعفين، ولو لم يترتب على تلك النتائج.
وقد خالف الإمام الرازي في ذلك فقرر «أَنَّ الجِهَادَ فِي حَقِّ غَيْرِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ فُرُوضِ الكِفَايَاتِ، فَمَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ يُفِيدُ لَمْ يَجِبْ، بِخِلَافِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنَّهُ عَلَى ثِقَةٍ مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ» [1] فهذا فهم غريب بعيدٌ عن السياق.
وقد حرر ابن عطية المسألة فقال: «هذا أمرٌ في ظاهر اللفظ للنبي n وحده، لكن لم نجد قط في خبر أن القتال فرض على النبي صلى الله عليه وسلم دون الأمة مدة ما، المعنى- والله أعلم- أنه خطاب للنبي n اللفظ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه، أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يستشعر أن يجاهد ولو وحده» [2].
فهل ذلك يعني أن الإنسان لو بقي وحيدًا فيجب عليه أن يندفع وسط المعتدين، وقد يؤدي بنفسه إلى الهلكة؟
الإجابة على هذا تجبرنا على التفصيل وفق الأدلة المختلفة؛ فإذا أراد العدو أن يجتاح المؤمنين لا محالة، وهرب مجموعة من المؤمنين دون أن يتحيزوا إلى فئة، وإنما هو هروب يتبعه هروب، كل ما دخلوا مكانًا دخل العدو فيه، فهذا ليس تحيزًا إلى فئة، بل هو تولية للأدبار، ففي هذه الحالة يحرم الفرار من الزحف، وبقاء المرء وحيدًا في المعركة من أعظم العبادات التي يباهى بها يوم القيامة كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في: «ثلاثة يحبهم الله وثلاثة يشنؤهم الله عزَّ وجلَّ -فذكر فيهم- الرجل يلقى العدو في الفئة فينصب لهم نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه» وفي رواية الترمذي: «ورجل كان في سرية فلقي العدو فهزموا وأقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح له» [3]، وهالك معذور خير من ناجٍ فرور.
فهنا لا مجال للانسحاب ولو بقي المرء وحيدًا؛ إذ لا يوجد مجال لتطبيق الأمرين المذكورين في جواز الانسحاب في قوله تعالى ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 15، 16].
وأبرز مثالٍ على ذلك أدى إلى نتائج كارثية عندما هجم التتار على المسلمين، فكان المسلمون يهربون فيجتاح التتار، ويتقدمون حتى دمروا نصف العالم.. فليتفكر القوم فالحال كما قال الله جل جلاله: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: 89] يهربون، فيجتاح العدو المدينة، فيهرب هؤلاء يزعمون أن الحكمة تقتضي الهرب، ثم يهربون فيجتاح العدو التي بعدها ثم يهربون، حتى ينتهي البلد بأسره.. ولابتعاد الناس عن المنهج القرآني، والتطبيق النبوي في فهم كيفية بسط أنوار السلام في أزمنة الحرب ترى العدو ينصر بالرعب مع أن هذا إنما كان من خصائص هذه الأمة.
وإنما يجوز الانسحاب عندما يكون الانسحاب حقًا انسحابًا تكتيكيًا كما فعل خالد بن الوليد عندما انسحب في معركة مؤتة وخرج بخسائر غير متوقعة للجيش عند الطرفين، حتى قيل بأنه لم يقتل من المسلمين إلا ثمانية أو اثنى عشر رجلًا من مجموع ثلاثة آلاف قابلوا عدداً ضخماً من العدو، فقيل مائة ألف مقاتل وقيل أكثر من ذلك، فالانسحاب التكتيكي يؤدي إلى الالتفاف على العدو بإيهام العدو بالانسحاب ثم إيقاعه في مصيدة مباشرة أو غير مباشرة، فإن كان الجيش باسطًا سيطرته على عشر مدن فانسحب من المدينة الأولى بزعم أنه انسحاب تكتيكي إلى المدينة الثانية، ثم جاء العدو إلى المدينة الثانية فتم الانسحاب إلى المدينة الثالثة وهكذا حتى فقد كل ما عنده.. فالانسحاب الأول لم يكن إلا فرارًا من الزحف لا انسحابًا تكتيكيًا، والبلاء بعد ذلك سيكون عظيمًا، وهذا ما حصل عندما اجتاح التتار بلاد سمرقند، ثم أفغانستان ثم خراسان، وهكذا حتى وصلوا إلى العراق، والناس الذين يقدرون على القتال ينسحبون، والبقية يبقون تحت رحمة عدو متوحش يُعمل فيهم القتل والسبي، فهناك فرق بين الانسحاب التكتيكي الذي ذكره الله في سورة الأنفال، وبين الانسحاب التام الذي يعني الهزيمة الأسوأ، وهنا تأتي هذه الآية {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 84] وفهم ذلك البراء بن عازب فعن أبي إسحاق قال: قلت للبراء: الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال: لا! لأن الله عزَّ وجلَّ بعث رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ إنما ذاك في النفقة [4]، وقد فرض الله القتال على المؤمنين جميعًا بقوله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [النساء: 74].
[1] تفسير الرازي (10/ 157)، وهو رأي نسبه القرطبي إلى الزجاج.
[2] تفسير ابن عطية (2/ 86).
[3] أحمد(5 / 151) برقم 21378 وقال الأرناؤوط: حديث صحيح وهذا إسناد ضعيف، سنن الترمذي (4 / 698) برقم 2568، ورواية الحاكم ذكرها الألباني في السلسلة الصحيحة (16 / 23) برقم 3478.
[4] أحمد (4 / 281).