المقالات

وطن الإنسان بين كرامته وولادته

أ.د/ عبد السلام المجيدي

أيهما أولى بالمسلم أرض العدل أم أرض ولد فيها؟

علم الاجتماع القرآني (20)
القرآن في بصائر بناء الإنسان لم يجعل الأولوية للمكان الذي ولد فيه الشخص، وإنما جعل الأولوية للمكان الذي يكون فيه تكريمه، ويقام العدل فيه، فليست الأولية للتراب، بل للإنسان الذي يعمر التراب، وهذا الأساس يُبَصِّرُنا به قوله تعالى: ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا ﴾.


مفهوم الآية واضح: إلى أرض العدل..
ولا يكون ولاء الإنسان للأرض مطلقًا، بل للأرض التي يجد فيها العدل، وينجو من الظلم، والأراضي التي يفشو فيها الظلم لا قدسية لها؛ إذ المراد إيجاد أرض العدل ﴿ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا﴾ (النساء: 75)، فإن لم توجد أرض العدل الحقيقي فيبحث المرء عن الأرض التي يوجد فيها القانون، وتكون مفاسدها أقل من غيرها، ويمكنه أن يجد السعة فيها على أن يعبد الله بحرية، وهنا لا بد من الموازنة بين الأراضي المختلفة في إيجابياتها وسلبياتها، والمصالح التي تتحقق فيها، والمفاسد التي تخف أو تنعدم فيها.
سؤال هام


لقد بلغ من الظلم في هذه القرية أن الرجال الذين يمكن أن يدفعوا عن أنفسهم لا يستطيعون..
الرجال الذين يقومون على احتياجات النساء والولدان لا يستطيعون أن يجلبوا اللقمة للنساء والولدان، فإذا كانوا مستضعفين لا يستطيعون أن يضمنوا أدنى حقوقهم لفشو الظلم في هذه القرية فكيف بالنساء والولدان؟

والآية تصور لك حالةً من القهر الرهيب الذي أصاب عموم الناس، واستنفد حقوقهم بل بدأ يأكل حياتهم وكرامتهم.. وصل الحرج والضيق بهم أنهم ودوا الهرب والخروج من مكانهم.. فلم يعودوا يطلبون الماء ولا الغذاء ولا الدواء ولا الحاجات الأساسية؛ لأنهم لا يجدونها أصلًا فهم أموات كالأحياء، وأحياء كالأموات.. وقولهم {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 75]
تبين أنهم فقدوا كل من يمكنه أن يزيل عنهم ذلك الظلم أو يخففه عنهم حتى أنهم كانوا يتوسطون ببعض الظلمة يعطونهم مالًا أو يكون بعضهم له قرابة نسبية، أو يتوسطون بمن يزعمون نصرة الحقوق الإنسانية.. لقد فقدوا ذلك كله أيضًا.. حسبنا الله! انظر كم تصور الآية من معاناتهم وحزنهم وقهرهم.. والله المستعان.. فلم يبق لهم أمام هذه الحالة من الظلم القامع إلا أن يطلبوا الخروج من تلك القرية الظالم أهلها، وعبر عن هذه المدينة أو الدولة الظالم أهلها بالقرية لأنه أراد اجتماع الظالمين فيها على استضعاف المستضعفين،
فالقرية مشتقة من (قري) يَدُلُّ عَلَى جمعٍ وَاجْتِمَاعٍ. مِنْ ذَلِكَ القَرْيَةُ، سُمِّيَتْ قَرْيَةً لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا، وَيَقُولُونَ: قَرَيْتُ المَاءَ فِي المِقْرَاةِ: جَمَعْتُهُ ، وانظر لجلال التعبير القرآني المدهش حيث يصور مقدار تواطؤ المؤسسات الإعلامية والتعليمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية على ظلم المستضعفين في الأرض حتى أصبحوا لا يرجون أكثر من الهرب منهم.. والآية تعطينا أساسًا عظيمًا من أسس تطبيق خطة أخذ الحذر، وهو عدم تمجيد الأرض التي يفشو فيها الظلم بل إن صنع الانتصار يكمن في البحث عن أرض يقام فيها العدل لتكون منطلق نشر للعدل في الأراضي التي يفشو فيها الظلم، ولذا هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مع أن مكة أقدس بقاع الدنيا، وافتخر عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ بِاقْتِحَامِ خَيْلِ قَوْمِهِ مَكَّةَ يوم الفتح، فقال :
شَهِدْنَ مَعَ النَّبِيءِ مُسَوَّمَاتٍ
حُنَيْنًا وَهِيَ دَامِيَةُ الحَوَامِي
وَوَقْعَةَ خَالِدٍ شَهِدَتْ وَحَكَّتْ
سَنَابِكَهَا عَلَى البَلَدِ الحَرَامِ
ولاحظ عنونة هذه القضايا لتجد أن الله أشار إلى استراتيجية نصرة المستضعفين، وليس إلى ما تشيعه بعض النظم الحديثة من نصرة الأقليات؛ لأن لفظ: نصرة الأقلية، أفضى به الأمر كثيرًا إلى تدمير الأكثرية، فالأقلية لفظة مبهمة، وقد يكون من معانيها الأقلية المتمردة الخارجة عن القانون.. تصحح لنا الآيات الفهم والمصطلح، فالعبرة بمحاربة الظلم الذي يستضعف الآخرين، سواء أكانوا أكثرية أم أقلية، وهنا يبدو التفوق القرآني واضحًا في نصرة الحقوق البشرية مقارنًا بالنظم الوضعية، وذكر الفئة المستضعفة أقوى من الأقليات؛ إذ المستضعفون فئة تذكر بالعدل لا على طلب الاستقواء.

المجيدي

مفصل تفسير سورة النساء


الكلمات المفتاحية: وطن الإنسان بين كرامته وولادته