ما عوامل النَّجاح التي تساعد على الاستخلاف في الأرض، كما تضمَّنتها الآيات [36-39] من سورة البقرة؟
8 نوفمبر، 2024
155
الجواب: تضمَّن هذا القِسم (6) عوامل للنَّجاح في اختبار الاستخلاف، وهي:
عامل [1]
استيعاب أن الاستخلاف الأرضيَّ تشريف، وتكليف، وليس بسبب نظرية الخطيئة الأصليَّة، التي انتقلت من آدم إلى بنيه بغير ذنب منهم، كما زعم المحرِّفون، ويبصِّرنا بذلك قوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] مع قوله: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة:36]؛ وبذا تتَّضح طبيعة الوجود الإنسانيِّ في الأرض، فخروج آدم وزوجه إلى الأرض، جزء مقرَّر مسبقًا ضمن الخطَّة الكونيَّة في الخلق البشريِّ، ووقوعهما في الزَّلل علامة على الخروج، وإن كان في لمحة منه تأديبًا لهما على ما وقع من الزَّلل، لكنه محى السيئة المترتِّبة عنه بالتَّوبة، ويظهر هذا عند الجمع بين هذا الموضع وبين الآية (30) التي أخبر الله فيها أنه سيجعل في الأرض خليفة، وليس في الجنة.
عامل [2]
الاستعداد لمواجهة العداوات المستقبليَّة، والفشل نصيبُ مَنْ جعل عدوَّه صديقاً له؛ إذ العداوة هنا أبديَّة، ويبصِّرنا بذلك قوله: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36].
و{اهْبِطُوا} معناه: الانتقال غالبًا من أعلى إلى أسفل عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ، أو الاختيار، وضمير الجمع هنا يعود لآدم وحواء، وإبليس لعنه الله.
عامل [3]
الاستفادة من البيئة المهيأة مكانيًّا، وزمانيًّا: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36]، فالمستقرُّ مكان الاستقرار الذي يدلُّ على التمكُّن، والاطمئنان، والمتاع: كلُّ شيء ينتفع به في مدَّة، وتصحبه لَذَّةٌ، من معاش، أو شهوة نفسيَّة، أو جسديَّة، أو عقليَّة، والمستقرُّ والمتاع {إِلَى حِينٍ}، فطبيعتهما الأرضيَّة تأبى الدَّوام، بل هما مؤقَّتان.
عامل [4]
التوبة تظل مفتوحة عند أيِّ فشلٍ مؤقَّت في المعركة مع الشَّيطان باقتراف المعصية، فيلجأ العبد إلى الله منيبًا فيتقبَّله ربُّه ويزكِّيه بما يُعِينُه على قلب الهزيمة إلى انتصار، ويبصِّرنا بهذا قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37].
بصيرة [1]
• مدى التَّوبة مفتوح، وكلمة: {حِين} التي جاءت في الآية السَّابقة، تدلُّ على بقاء التَّمتع إلى خروج الإنسان من الأرض؛ إمَّا بالموت، وإمَّا بقيام السَّاعة.
بصيرة [2]
• {فَتَلَقَّى آدَمُ}، تبصِّرنا بمدى رحمة الله بالإنسانيَّة؛ إذ علَّمها ما به ترجع إليه، وتكسب رضاه، فالمعنى: فلقَّى الله آدم كلماتٍ، بأنْ علَّمه إيَّاهن ليقولهنَّ فيتوب، وهنا قرأ ابن كثير {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ}
فالكلمات تلقَّت آدم في حمأة سقوطه المدوِّي في تلك المعصية فأنقذته، وتكمل التَّصويرَ قراءةُ الجمهور؛ إذ تلقَّاها آدم تلقِّي إقبال، وأخذ، ومسرَّة، ولم يردَّها كما ردَّ إبليس أمر ربِّه، ولمَّا قال تلك الكلمات فرحًا بها نادمًا على زلَّتِه {فَتَابَ عَلَيْهِ}: فتاب آدم أي: رجع عن الذَّنب على أجمل الوجوه، فتاب الله عليه، أي: رجع عليه بمحبَّته وإحسانه كأنْ لم يذنب.
بصيرة [3]
• {فَتَابَ عَلَيْهِ} تبصِّرنا هذه الكلمة من خلال لفظها بكيفية قطف ثمرتها، فكلمة (تاب) توبًا وتوبة، تعني رجع رجوعًا، فإن رجعت إلى الله رجع الله إليك، وذهب الخليل e إلى أن معنى التوبة: “الاستِحياءُ”، وذهب الرَّاغب e إلى تعريف التوبة على أساس أثر الاستحياء، والنَّدم، والرُّجوع فقال: “التَّوب: ترك الذَّنب على أجمل الوجوه”. “العين (8/138)، المفردات للراغب (ص169)”
بصيرة [4]
• {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37]، تبصِّرنا صيغ المبالغة هنا بمدى الرحمة الإلهيَّة بالحياة الإنسانيَّة؛ فـ{التَّوَّابُ} تبصِّرك بكثرة مَنْ يذنب، وكثرة ما يصدر من الذَّنب عن الواحد منهم، ولكن الله {تَوَّاب} كثير التوبة على الجميع
والنَّبيُّ يقول: «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي» “الترمذي (3540)، وقال حسن غريب، وقال ابن رجب: إسناده لا بأس به”
وقَرَن اسم الرَّحيم بالتَّواب؛ لأنَّ الرَّحمة أساس التوبة، ولأن الله –تعالى مجده- لا يغفر لهم السَّيِّئات، بل يغدق عليهم بالخيرات.
عامل [5]
اتِّباع المنهاج الإلهيِّ الدُّستوريِّ الهادي لكيفية بناء الحياة الأرضيَّة؛ لضمان عدم الخوف من المستقبل، وعدم الحزن على الماضي، وإلا واجهنا المصير الخطير للكافر الذي يغطِّي أعظم حقائق الكون، ويبصِّرنا بذلك قوله: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]
بصيرة [1]
• {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} تبصِّرنا بأن ذِكْر الهبوط مرة أخرى لمصلحة عظيمة للبشريَّة؛ إذ ذلك ليتمَّ التَّنبه إلى التَّخطيط الجيد والواعي للحياة المستقبليَّة، فذَكَرَه في الأوَّل؛ لبيان تحقُّق علامة الهبوط وهو الأكل من الشَّجرة، وذكره هنا؛ لبيان أنه مقصودٌ من خلق البشريَّة حتى تتحقَّق المصالح المتعلِّقة بالاستخلاف، فهو مقصودٌ عند خلق آدم وقبل أن يُذنِب.
بصيرة [2]
• {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى}، تبصِّرنا بأن الهدى منهج يجب اتِّباعه، يضمن القيادة للبشريَّة إلى الحياة الممتعة؛ إذ هذه الجملة شرط، وجوابه هو الشَّرط الثاني مع جوابه {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
بصيرة [3]
• بمجيء المنهاج الذي يحوي الهدى الإلهيَّ، يعطي الله البشريَّة الإرادة الحرَّة للاختيار، ويحذِّرهم بصرامة ليتعاملوا مع الحياة بجدِّيَّة؛ لأنه سيترتب على اختيارهم نتائج خطرة، وهنا تبيِّنُ لك الآيتان أهمِّيَّة الاختيار؛ لأنهم سينقسمون إلى صنفين:
صنف [1]: الصِّنف المتَّبع للهدى الإلهيِّ، وقال الله فيه: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38]، وكلمة {تَبِعَ}: “بِالْإِقْدَامِ عَلَى مَا يَلْزَمُ، وَالِاحْجَامِ عَمَّا يَحْرُمُ” كما يقول الرَّازيُّ (تفسير الرازي3/472)، وهي كلمة تدلُّ على أن التَّابع يقفو الهدى ويتلوه، ويتتبَّع أثره وخطاه وتعاليمه، ويبحث عن نُظُمِه ليلتزمها.. وهي كلمة تتضمَّن تحديدًا واضحًا للخطوات، التي ينبغي أن يتحرَّك خلفها الفائزون، فهؤلاء {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في المستقبل الدُّنيويِّ والأخرويِّ {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على الماضي، فالأمان المستقبليُّ من المخافات القادمة، وإزالة الأحزان على الآلام الماضية يعطي الشُّعور الحقيقيَّ بمتعة الحياة.
• صنف [2]: الصِّنف المعرض عن الهدى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 39]، {كَفَرُوا} فغطوا الحقائق، {وَكَذَّبُوا} أي: نسبوا الكذب للآيات، مع أن الآيات جمع آية، وهي العلامة، والحجَّة، والبرهان؛ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ الْحَقَّ الْخَفِيَّ.
• وعند الجمع بين الآيتين يكون المعنى: فمن آمن، وصدَّق بآياتي، وتبع هداي فلا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، وهم أصحاب الجنَّة هم فيها خالدون، والذين كفروا وكذَّبوا بآياتنا فاتَّبعوا ضلالات الخلق بدلاً من هداي، لحقهم الخوف والحزن، وصاروا من أصحاب النار هم فيها خالدون.
عامل [6]
• استلهام تجربة الإخفاق الأولى التي خاضها الأبوان، وتوظيفها في التقرير المستمرِّ للعداوة الأبديَّة مع إبليس وأتباعه.
وسيط تفسير سورة البقرة