أعماق المعنى استكشاف دلالات “في سبيل الله”
3 أغسطس، 2024
185
جمال الكلمة القرآنية (31)
“يعد مصطلح “في سبيل الله” من أعظم المصطلحات في القرآن الكريم، وهذه الجملة تحمل في طياتها دلالات لغوية ومعنوية عميقة. إن هذا المصطلح ليس مجرد عبارة، بل هو منهج حياة، وقيمة سامية تدعو إلى العطاء والتضحية من أجل تحقيق هدف سامٍ. في هذا المقال، سنقوم برحلة في أعماق هذا المصطلح، مستكشفين جوانبه اللغوية والمعنوية، ونتائج تطبيقه في حياة الفرد والمجتمع.”
﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ تبصرك بحقيقة الجهاد وسيلة وغاية.
فسبيله جل جلاله لا يعني احتياج الله لشيء، بل يعني حفظ المصالح البشرية الحقيقية، والعمل على تحرير الإنسانية من الظلم والجهل حتى تعرف ربها وتتمكن من أن تختار طريقها دون قهرٍ أو إكراه.
ما وجه عظمة هذا المصطلح المبتكر ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾؟
السبيل الطريق الواضح البين، وهذ المركب الإضافي ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يحتمل ثلاث تفصيلات نحوية؛ إذ الإضافة إما أن تكون مفسرة باللام ﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾، وإما أن تكون مفسرة بفي ﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ وإما أن تكون مفسرة بمن ﴿ﭚ ﭛ ﭜ﴾
فها أنت ترى أن هذا المصطلح العظيم صالحٌ للمعاني الثلاثة.
فتقدير اللام يحدد الهدف الأعلى للجهاد: في سبيلٍ لله، أي: في سبيلٍ تريدون به وجه الله، وليس الجاه الشخصي، والاستعلاء على بقية أهل الأرض، وليس الجهاد؛ لأجل المغانم الكثيرة التي تبتغيها النفس الأمارة بالسوء، فهناك من يبتغي المال، وهناك من يبتغي الجاه، وهناك من يبتغي السيطرة والاستيلاء على خيرات الآخرين، وهناك من يبتغي استعباد الشعوب.
وتقدير ﴿فِي﴾ يحدد الهدف الأعلى كاللام، ويحدد الوسيلة أيضًا، فلا تكون وسيلة الجهاد في سبيل في الله وسيلة في غير سبيل الله، فالغاية لا تبرر الواسطة هنا، بل الذي يكون في سبيلٍ لله ينبغي أن يكون في سبيلٍ في الله.
وتقدير (من) يدل على ضرورة أن يكون هذا الجهاد أو ذلك الفعل قد اكتسب شرعيته من الله (في سبيلٍ من الله) فكأنه مبدأه من الله.. ماذا يعني ذلك؟ يعني ألا تجعل الشرعية منبعثة من ذاتك، ولا ممن يحرضك بغير علم ولا هدى ولا كتابٍ منيرٍ.
فما معنى في سبيل الله أيضًا؟ أي: هل الله يحتاج لنا لنقاتل في سبيله؟
إن إضافة هذه المعاني لله لها جوهرٌ يبينها، وحصنٌ محيط بها يمنعها من المعاني الزائفة، وقلب هذا المصطلح في الشريعة لتجد عجبًا يطول ذكره غير أنا نشير إلى لمحةٍ من ملامحه: فالله يضيف اسمه الشريف إلى كثيرٍ من الكلمات ليظهر أن الله يريد تحقيق المصالح للبشرية، ويحيطها بالسياج المشروع حتى لا يغر أحدًا في دينه ما كان يفتري، وليحث على سلوك مقتضى تلك الإضافة.
فمثلًا: قرض الله: قال الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245].. إن الله الغني عن العالمين لا يحتاج إلى قرضِ مخلوقٍ لا يكاد يساوي ذرة في مخلوقاته؛ ولكن الله جعل قرضك غير ضائع بهذا التركيب: أقرض الله، أي: أقرض البشرية تجد ذلك عند الله كما قال بين الله ذلك تفصيلًا في قوله: {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20]. ومثل هذا كثيرٌ في الشريعة، فعندما يقول الله جل جلاله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] وليس المراد أن الله محتاجٌ لشيء من الغنيمة؟ إنما المراد فأن للمصالح البشرية المختلفة، ولكنه أحاطها بسياج الهدف والوسيلة، فلا تخرج عن ما يحدده وسيلة وهدفًا.
ويفصل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فيقول: «إِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يَقُولُ يَوْمَ القِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي. قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلاَنًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي. قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟ يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِى. قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِى فُلاَنٌ، فَلَمْ تَسْقِهِ. أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟» [1].
وبذا نفهم معنى قوله جل في علاه: {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [النساء: 95]، فليست كلمة ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ تعني إلا في سبيلِ إقامةِ الحياة البشرية العادلة، وحماية الأرض من الفساد بالسير على النظام الذي شرعه خالق هذه الحياة، ولا يتحقق ذلك على الوجه الحقيقي إلا بالتعرف إلى الله والقرب منه جل في علاه.. لا يتحقق ذلك إلا بجعل كلمته هي العليا.. هذا معنى الجهاد: بذل الجهد لتكون كلمة الله هي العليا.. ستقول: ولماذا لا بد أن نجعل كلمته هي العليا؟
حتى نختصر عليك مسافات التفكير.. والمسافات الهائلة لبذل الجهود في البحث عن صناعة العدل في الحياة.. فإنك إذا جعلت كلمته هي العليا منعت أن تكون كلمتك هي العليا، ومنعت أن تكون كلمة صديقك هي العليا، ومنعت أن تكون كلمة عدوك هي العليا.. أن تجعل كلمة الله هي العليا يعني أن تثبت العدل في الحياة البشرية حيث لا يعلو أحدٌ على أحد، ولا يفضل أحدٌ أحدًا إلا بالعمل الصالح، والإعمار للحياة بما يرفع الإنسان يوم يُرجع إلى ربه ويلقاه..
فبين الله جل ذكره الـمجاهدين الحقيقيين، وهم من جاهد في سبيل الله، لا في سبيل شهواته ورغباته، ولا في سبيل تحقيق طموحاته، بل في سبيل العدل، والخير، والإحسان، وإغاثة الـمستضعفين في الأرض خالصًا لوجه الله.
والجهاد في سبيل الله يعني أن يكون في سبيل العدل والخير والإحسان وإغاثة المستضعفين في الأرض خالصًا لوجه الله.
ألا خاب الملحدون الذين يؤلهون أنفسهم، ويريدون إفساد الأرض بجعل كلمة كل واحدٍ منهم هي العليا، وهنا تعلم الأسرار الفكرية وراء تقرير النبي صلى الله عليه وسلم معنى الجهاد في سبيله حيث جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ» [2].
لقد عدد الرجل الأهداف المختلفة التي يسعى لها الأفراد والعصابات المسلحة والدول المعتدية عندما يقاتلون الآخرين، فهم يريدون من قتالهم الاستيلاء على خيرات الآخرين، والسيطرة على ثرواتهم (للمغنم)، وربما أرادوا إظهار السمعة والبطولة والتفوق الذاتي (للذكر)، وربما أرادوا إظهار القوة الشخصية والتفوق النوعي، وفرض شخصيتهم المستكبرة المتعالية التي لها حق الحصانة في الأفعال المجرمة في العالم (ليرى مكانه).. إنهم في كل ذلك يريدون كلمتهم هي العليا في الأرض، وكلهم سيفسد في الأرض وفق هذه الأهداف الضيقة ثم يختلف مقدار إفسادهم ويتفاوت.. فمن في سبيل الله؟ إنه من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وبذا تسير البشرية على النظام العادل الذي شرعه لها خالقها، فلا يبغي أحدٌ على أحد، ولا يتعالى جنس على جنس.. هنا يتم المحافظة على الحياة البشرية.
أين هذا من فهم الملحدين ومليشياتهم للطبيعة الوجودية للبشرية؟ أين هذه العظمة من الفهم الأعوج الذي يرسيه من يزعم الجهاد ثم يقتل الأبرياء؟ أين هذه العظمة من فهم أصحاب (نظام الفيتو) وقد جعلوا أنفسهم أبناء الله وأحباءه يستطيلون بأسلحتهم على أهل الأرض؟
وهذه البصيرة تعني أن تبذل الجهود المالية في إيجاد المجموعات الضاغطة، والمؤسسات الإعلامية والثقافية المختلفة التي تثبت معاني الاستقامة في الحياة، وعدم بغيها عوجًا، وأن يبذل المال في سبيل التعاون على البر والتقوى وفي سبيل كسر جهود التعاون على الإثم والعدوان.
[1] صحيح مسلم (8 / 13) برقم 6721.
[2] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (4 / 24) برقم 2810.