كيف يتربص الكافرون بالمؤمنين؟ مؤكدات ضخمة من قوله تعالى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا}
26 أكتوبر، 2024
163
منذ فجر التاريخ، وخلق الإنسان الأول يواجه المؤمن أعداء يتربصون به، كله ضمن السنن الإلهية الثابتة في إدارة الحياة واستخلاص المُكْرَمين حتى يستحقوا النعيم المقيم، ومن مشاهد الابتلاء الصراع بين الحق والباطل، بين الإيمان والكفر.
انظر كيف يؤكد الله عداوة الراسخين في الكفر للمؤمنين، فيقول: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء: 101]..
هذا ربنا جل جلاله ينير بصيرتنا بضرورة عدم الشك في هذه العداوة، فالمعنى كما يقول الطبري:
«قد أبانوا لكم عداوتهم بمناصبتهم لكم الحرب على إيمانكم بالله وبرسوله، وترككم عبادة ما يعبدون من الأوثان والأصنام، ومخالفتكم ما هم عليه من الضلالة»، فانظر المؤكدات الضخمة التي تبين هذه العداوة في الآية:
فالمؤكد الأول: أن الله أظهر في موضع الإضمار فقال: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء: 101] فلم يقل:
إنهم كانوا بل أظهر من جديد فقال: إن الكافرين،
وترى المؤكد الثاني في بداية الجملة: وهو حرف النصب ﴿إِنَّ﴾،
وترى المؤكد الثالث في التعبير عن ذلك باسم الفاعل (الكافر) إشارة إلى أن المراد من رسخ في الكفر وصار عريقًا فيه لا من تلبس به في ساعةٍ من الساعات، فقال: ﴿الْكَافِرِينَ﴾ أي: الراسخين منهم في الكفر،
وأما المؤكد الرابع فهو قوله جل في علاه: ﴿كَانُوا﴾ الذي يدل في مثل هذا الاستعمال على الرسوخ والثبات لا على المضي، واستخدم الماضي لبيان عراقة عَداء الكافرين المعاندين المعتدين.
﴿كَانُوا﴾ والكينونة هنا تدل على الطبيعة والحقيقة، أي: كانوا كذلك جبلة وطبعًا، ولعله أشار إلى أنهم مغلوبون بقوله: ﴿لَكُمْ﴾ دون عليكم، ثم انظر المؤكد الخامس في قوله: ﴿عَدُوًّا مُبِينًا﴾ وكلمة (عدو) اللفظ يستوي فيه الواحد والجمع، فأكده بوصفه بالإبانة ﴿مُبِينًا﴾ أي: ظاهر العداوة، يعدون عليكم لقصد الأذى مهما وجدوا لذلك سبيلًا، فربما وجدوا الفرصة في ذلك عند طول الصلاة فلذلك قصرتها[1].
فهذا الصنف من الكافرين «كَانَ شَأْنُهُمْ أَنَّهُمْ أَعْدَاءٌ مُظْهِرُونَ لِلْعَدَاوَةِ بِالقِتَالِ وَالعُدْوَانِ، فَهُمْ لَا يُضَيِّعُونَ فُرْصَةَ اشْتِغَالِكُمْ بِمُنَاجَاةِ اللهِ تَعَالَى، وَلَا يُرَاقِبُونَ اللهَ، وَلَا يَخْشَوْنَهُ فِيكُمْ فَيَمْتَنِعُوا عَنِ الإِيقَاعِ بِكُمْ إِذَا وَجَدُوكُمْ غَافِلِينَ عَنْهُمْ» [2].. تأمل كيف أشبههم بعض من ينتسب إلى الإسلام، فيهاجمون المسلمين في مساجدهم آمن ما يكونون، أي: في صلاتهم، وما الله بغافل عما يعملون.
وهذه المؤكدات تبصرك بالقرينة الحالية الواقعية التي تشير إلى صنفٍ محددٍ من الكافرين عندهم هذه العداوة المبينة:
إنهم الكافرون المعاندون المعتدون، وهم المتعصبون الذين يتسلمون سَنام القيادة الإدارية لغيرهم غالبًا؛ فيحرصون على إخفاء طمعهم وإجرامهم وحرصهم على الظهور بإعلان الحرب المسعورة على المؤمنين الطاهرين أما سائر الكافرين فقد يكونون محايدين غير مبالين بعداوة ولا صداقة.
وهنا يظهر لنا سؤالان يضيئان لنا التفكير في هذه البصيرة العظيمة {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء: 101]..
فأما السؤال الأول: فلماذا أكد الله عداوة الكافرين هذا التأكيد الشديد؟
لعلك تجد الجواب عندما تفكر في الواقع حولك، فقد شرع الإسلام التسامح مع الكفار على أوسع نطاق، وحذر المسلمين من استباحة دماء الـمؤمنين والـمُؤَمَّنين..
فربما غفل المؤمنون بسبب هذا الحس الخلقي العالي عن عداوة الكافرين المعاندين، ولذا أكد الله للمؤمنين أن هذا الصنف من الكفار عدو حقيقي ينبغي أن تدور السياسة الأمنية حول كيفية رد عدوانه، والحذر من عنفوانه.. الله.. كم في الآية من عجبٍ.. فإنك ترى المسلمين قد جعلوا عداوتهم فيما بينهم ونسوا العدو المبين أمامهم، وهذا قانونٌ لا يخلف: من غفل عن عدوه المبين صار عدوه أخاه بل ربما عادى نفسه.
وأما السؤال الثاني:
فمعلوم أن الكافر لا يقاتَل لكفره بل لعدوانه، فلماذا ذكر الله فتنة الكافرين، وعدواتهم مع أنه يوجد منهم من لا يعتدي، و لِـمَ لـَمْ يذكر عدوان بعض من ينتسب إلى المسلمين مع أن عداوتهم قد تكون أشد بيانًا وظهورًا من عداوة بعض الكافرين؟
والجواب يظهر واضحًا عندما تتدبر هذه السورة؛ فإن الله جعل من أعظم المبادئ البدهية ألا يقتل مؤمن مؤمنًا، وألا يعتدي مسلم على مسلم {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92]، {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، فكأن محاربة المسلم للمسلم تناقض أصل الإيمان، ولذا تقوم المبادئ القرآنية على افتراض أن العدو المبين المعتدي لا يكون إلا كافرًا، ولا يعني هذا أن كل كافرٍ لا بد أن يكون معتديًا كما هو معلوم من الاستعمال القرآني، ولذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم القاتل كافرًا إما باعتبار الاستحلال أو باعتبار المآل، فقال صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»
[1] انظر: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (5/ 379).
[2] تفسير المنار (5/ 298).