بين الحداثة والتغريب في السِّياق الغربي: (رؤية نقدية لصامويل هنتنجتون)
10 نوفمبر، 2021
492
عبر حواراتي العديدة حول قضايا الحداثة والإسلام, أدركتُ أنَّ كثيرًا يذهبُ إلى أنَّ المقصود بالحداثة: (Modernism) المعنى السَّائد في سياقها الليبرالي الغربي العلماني، الذي يُحتمل نشؤه بعد نهاية مرحلة العصور الوسطى في أوروبا، وظهور عصر النهضة هناك أي “في القرن الخامس عشر الميلادي، الذي جاء على حساب سلطة الكنيسة، وأتى بالدولة القومية، ذات التوجّهات العلمانية والديمقراطية في نهاية المطاف”([1]). وثمّة من يذهب إلى أنَّ الوعي بها نشأ في العصر الوسيط، وإن كانت صفتها برزت في القرن السادس عشر([2])، كما أنَّ البعض ذهب إلى أنَّ الحداثة لم تظهر إلا بعد اندلاع الثورة الفرنسية سنة 1789م، أي في القرن الثامن عشر([3]). وذلك كلّه يعني في نتيجته حقيقة موضوعية واحدة هي أنَّ الحداثة وفقًا لسياق النشأة والتَّداول الغالب اليوم لا تعني سوى التغريب ((Westernization، وليس (التَّجديد)(Renewal) أو المعاصرة (Contemporary)، مع أنَّ اتجاهًا متزايدًا في الغرب بدأ ينادي بمصطلح ما بعد الحداث Postmodernism))، وهو ما يعني الوقوف ضدّ اتجاه الحداثة (Anti-Modernism) السَّابق، والبحث عن نموذج جديد هو (ما بعد الحداثة)!
ويقرّر جون جراي (John Gray ) في كتابه (ضعف الثقافة) – وفقًا لوائل حلّاق – : “الفكرة التي مفادها أنَّ التحديث يعني تكرار تجربة الحداثة الغربية والتلاقي عند المؤسسات والأنماط الثقافية الغربية، هي بحد ذاتها واحدة من أوهام العصر الحديث الرئيسة، التي دكّها [ هكذا] كثير من التطورات الحاسمة في التاريخ الحديث، وفي الوقت نفسه فإنَّ هذه الصورة للصورة الذاتية الخادعة للحداثة تتجاهل وتتغاضى عن ذكر الحالة التي عنت فيها الحداثة التغريب، ألا وهي اقتباس ثقافات أخرى منظورًا أداتيًا على الأرض هو عدمي في النهاية”([4])
منطلق أفكار التحديث المتلازم مع التغريب تنطلق من مسلّمة غربية خاطئة تفترض أن ثمّة حضارة كونية أو عالمية (Global Civilization) واحدة مركزها الغرب الأوروبي، ورأسها الولايات المتحدة الأمريكية. وفي هذا السياق يناقش البروفيسور صامويل هنتنجتون (ت: 2008م)، أستاذ العلوم السياسية الشهير في جامعة هارفرد، وصاحب نظرية (صدام الحضارات) ( The Clash of Civilizations ) ما يطلق عليه بعض الباحثين بـ”الحضارة العالمية” فيرى أن الفكرة بشكل عام تتضمن معنى” التقارب الثقافي الإنساني ، والقبول المتزايد بقيم وتوجّهات وممارسات، ومؤسسات مشتركة، من قبل شعوب العالم. وبشكل أكثر تحديداً فإن الفكرة قد تعني بعض الأشياء العميقة ولكنها ليست ذات صلة، وبعض الأشياء ذات الصلة ولكنها ليست عميقة، وبعض الأشياء غير ذات الصلة والسطحية في الوقت نفسه” ([5]).
يقدّم هنتنجتون في مناقشته لدعوى الحضارة العالمية أفكارًا أساسية تتفق عليها الجماعة الإنسانية مثل القيم المشتركة حول اعتبار الجريمة شرًّا، والإيمان بشكل ما للأسرة، ووجود حسّ أخلاقي في معظم المجتمعات. ثم يتساءل: “وإذا كان ذلك هو المقصود بالحضارة العالمية فإنه يصبح من المهم والمهم جدًّا، ولكنه ليس جديدًا، وليس له صلة بالمسألة”([6]).ثم يشير إلى أنَّ مصطلح الحضارة العالمية يمكن أن يمثّل المشتركات بين أبناء المجتمع الإنساني مثل المعرفة والقراءة والكتابة، وهو بنظره ما يميّز المجتمع الإنساني المتحضِّر ذا القيم المشتركة عن المجتمعات البدائية والبربرية([7])، ثم يشير إلى معنى ثالث للحضارة العالمية وهو الافتراضات والقيم التي تؤمن بها المجتمعات الغربية وبعض المجتمعات الأخرى، ولكنه يطلق على هذه القيم ثقافة “دافوس”، أي ذلك المنتدى الاقتصادي العالمي ( World Economic Forum)، الذي يعقد سنويًا بمدينة دافوس السويسرية، ويجتمع فيه عادة نحو ألف من رجال الأعمال والبنوك والشركات والمثقفين من أقطار مختلفة، وأهم ما يميّزهم أنهم “متمكنون من اللغة الإنجليزية بدرجة معقولة، ويعملون لدى حكومات أو هيئات أو مؤسسات أكاديمية ذات اهتمامات دولية واسعة، ويسافرون كثيرًا خارج بلادهم. وهم بوجه عام مشتركون في الأفكار بخصوص الفردانية واقتصاد السوق والديمقراطية السياسية، وهي أمور سائدة أيضاً في الحضارة الغربية” ([8]). ومع اعتراف هنتنجتون بأنَّ جماعة دافوس هؤلاء يمتلكون نفوذًا غير قليل، سواء في التحكم في المؤسسات الدولية، أم في كثير من حكومات العالم، وفي معظم مقدراتها الاقتصادية والعسكرية، ومن ثم فهي على درجة من الأهمية، ولكنا إن جئنا إلى نسبتها وتأثيرها في الأمة؛ فهي جزء محدود من ثقافة النخبة، التي لا تكاد تمثّل 1% ، أو أقل من ذلك، ومن ثمّ فعن أيّ حضارة عالمية نتحدَّث؟([9]).
إن هنتنجتون يأتي إلى انتشار ثقافة الاستهلاك والثقافة الشعبية على النمط الغربي، من حيث الأزياء، وطرائق السلوك الحياتي، فيرى أنَّ مثل هذه المسالك لا يمكن لها أن تشكّل ثقافة عالمية، لأنَّ هذه الأنماط تجيء وتذهب، إذ ليست بأكثر من ثقافات دخيلة أو متغيّرة، لا تغيّر من الثقافات الأساسية شيئاً([10]).
بعد نقاش مستفيض معمّق يخلص هنتنجتون إلى أنه إذا كان القرن التاسع عشر قد سمح بسيطرة الغرب وتصوير حضارته أنها الحضارة العالمية، نظرًا لعبء سيطرة الرجل الأبيض؛ فإنَّ القرن العشرين عزّز ذلك الاعتقاد، كي يساعد مفهوم الحضارة العالمية للغرب في تبرير سيطرة أيديولوجيته على العالم، لتكريس الثقافة الغربية، وهيمنتها على المجتمعات الأخرى، في ظل حاجة هذه المجتمعات إلى تقليد السلوكات والمؤسسات الغربية، وتلك في النهاية ليست بأكثر من وهم كذلك، تؤيده قلّة محدودة من غير الغربيين، إذ إن ما يراه الغرب كونياً، يراه غيرهم استعماراً ثقافيًا غربيًا([11]).
قد يلحظ القارئ أني أسرفتُ في الاقتباس من هنتنجتون، وإذ أقرّ بذلك لكنني أصدقك القول بأن تربيتنا الخاطئة – إسلاميين وعلمانيين- كرّست فينا ذهنية أن نهتم بمن القائل لا ما يقول؟ ولذلك فلو ظللت أتحدّث عن تلك الجوانب مستندًا إلى المنطق والشواهد المختلفة، وخاصة إذا أضفيت عليها آيات قرآنية وأحاديث نبوية صحيحة؛ فقد يتعزّز لديك الاعتقاد بأنني لا أزيد عن فرد متمترس وراء قناعتي الأيديولوجية أو “الغيبية” المعادية للحضارة العالمية المعاصرة (الغربية) والعلمانية والتحديث ..إلخ. وانظر كيف عُدنا في هذه الجملة الأخيرة إلى الخلط بين الحداثة بمعنى التجديد – وهو أمر واجب وليس مرغوبًا فقط – وبين التغريب، مما يدفعني للاستقواء ثانية وثالثة بمفكّر غربي من وزن هنتنجتون الذي يصوغ عنوانًا فرعيًا في أطروحته عن “صدام الحضارات” هكذا “الغرب والتحديث” من فصله الثالث الموسوم بـ “حضارة عالمية: التحديث والتغريب”، فإنه تحت ذلك العنوان تطرّق إلى ظواهر المجتمعات المعاصرة المدنية مثل القراءة والكتابة والتعليم والصناعة ونحوها، وتلك جميعها مظاهر تحديث فعلية بدأت منذ القرن الثامن عشر في أوروبا، لكنه يؤكّد أنها لا تؤذن باستنتاج أن ثمة تلازمًا بينها وبين عملية التغريب، فالتحديث عبارة عن عملية تحوّل ثورية تنتقل من أوضاع بدائية إلى أوضاع متحضّرة، وليس ذلك خاصًا بالحضارة الغربية، بل الحضارة بدأت في وديان دجلة والفرات والنيل والإندوس منذ 5,000 سنة ق.م، ليخلص إلى أنَّ من الصعوبة مقارنة ثقافة مجتمعات شديدة التقدّم بمجتمعات تقليدية جدًّا، فهاهنا يظهر ضعف التجانس الثقافي بين المجتمعين. ومع تأكيده على أنَّ المجتمعات الحديثة يمكن أن تكون أكثر تشابهًا فيما بينها من المجتمعات التقليدية؛ فإنه يعزو ذلك لسببين: الأول إنَّ التفاعل بينها لن يولّد ثقافة عامة مشتركة وإن سهّل عملية الانتقال التقنية والمخترعات من مجتمع لآخر والسبب الآخر: إنَّ المجتمعات التقليدية تقوم على الزراعة على حين تقوم المجتمعات الحديثة على الصناعة بأنواعها . وإذا كان لا مناص للتركيب الاجتماعي للمجتمعات الزراعية عن الجغرافيا، فإن ذلك على عكس الصناعة التي هي أقل اعتمادًا على البيئة الطبيعية المحلية، وفي الحالتين لا يؤذن ذلك بتجانس المجتمعات الحديثة واندماجها؛ إلا إذا تم التسليم بفرضية خاطئة مفادها
“ أنَّ المجتمع الحديث لابد أن يقترب من نمط واحد: النمط الغربي، وأنَّ الحضارة الحديثة هي الحضارة الغربية، والحضارة الغربية هي الحضارة الحديثة، ولكن هذا تحديد زائف تماماً“([12]).
إنَّ المحاجّة بالنمط الكمالي الأتاتوركي – يقرّر هنتنجتون- حتى في صيغتها التي يراها البعض معتدلة حين تفترض أنَّ ثمّة مجتمعات غير غربية “قد تتحدث عن طريق التغريب، تظل في حاجة إلى إثبات. والمحاجّة الكمالية المتطرفة بأن المجتمعات غير الغربية ” لابدَّ “لها أن تتغرب لكي تتحدث، لا تصمد كافتراض عام، بل لعلّها تثير سؤالاً: هل هناك مجتمعات غير غربية تواجه عقبات في طريق التحديث، ناجمة عن الثقافة المحلّية، لدرجة أن يصبح من الضروري إحلال الثقافة الغربية محلّها، حتى يتم الحديث؟ “([13]).
وبعد نقاش موسّع يعود هنتنجتون إلى تقرير أنَّ الربط بين التحديث والتغريب ربط زائف متسائلاً” فهل يعني أن هذا المجتمعات الصينية والإسلامية، إما أن تمسك عن كل من التحديث والتغريب أو أن تتبناهما؟ إنَّ الخيار لا يبدو محدودًا بهذا الشكل، بالإضافة إلى أنَّ اليابان وسنغافورة وتايوان والسعودية – وبدرجة أقل إيران- أصبحت مجتمعات حديثة، دون أن تصبح غربية” ([14]).
والأغرب في الأمر أن هنتنجتون يرد على باحث أمريكي متخصّص في نقد الإسلام، واشتهر بالتعصّب مثل دانيال بايبس (Daniel Pipes)، مؤسس منتدى الشرق الأوسط ومديره، إذ يربط الأخير بين التحديث والتغريب، ولكنه لمّا لم يجد من الدلائل الفعلية ما يعزّز فكرته تلك، لجأ ليقتبس من الكاتب الفرنسي الشيوعي ” مكسيم رودنسون” (Maxime Rodinson) قوله:
” لا يوجد هناك ما يدل – بطريقة مقنعة- على أنَّ الدِّين الإسلامي منع المسلمين من التقدّم على الطريق نحو الرأسمالية الحديثة”، ولقد كان غرض بايبس من ذلك الاقتباس التدليل على جزئية من التهمة الموجهة إلى الإسلام، وهي زعمه ذو العلاقة بالشأن الاقتصادي في الإسلام، أي الزعم القائل: إنَّ الإسلام يتعارض مع التحديث في مثل: فوائد البنوك والمواريث وعمل المرأة، ومع أنَّ ذلك أمر غير مسلّم به في ميزان البحث العلمي الحرّ الواعي المدرك لمقاصد التشريع الإسلامي وفلسفته؛ فإنَّ ذلك يؤكّد – من ناحية أخرى- عجز متطرفي الباحثين الغربيين عن إثبات وقوف الإسلام في مواجهة التحديث الفعلي – وليس التغريب- أي أنهم يقرّون أن الإسلام لا يمانع من التحديث في معظم النواحي الأخرى ما عدا الاقتصاد([15]). أما بايبس فلم يجد بعد ذلك إلا أن يقرّ – على غير المألوف عنه- أنَّ “الإسلام والتحديث لا يتصادمان، المسلمون المتديّنون يحضّون على العلم، ويعملون في المصانع بكفاءة، ويستخدمون الأسلحة المتطوّرة. التحديث لا يتطلّب أيديولوجية سياسية ولا مؤسسات بعينها، مثل الانتخابات، الحدود الوطنية، المؤسسات المدنية، وكل مظاهر الحياة الأخرى ليست ضرورية من أجل التقدّم الاقتصادي. وكعقيدة فإن الإسلام يرضي كآفة المستويات من المستشارين في العمل الإداري والمزارعين، سواء بسواء. والشريعة لا تقول شيئًا عن التغييرات التي تصاحب التحديث، مثل التحوّل من الزراعة إلى الصناعة، من الريف إلى المدينة، أو من الاستقرار الاجتماعي إلى التغيير الاجتماعي المتواصل، ولا هي تصطدم بأمور العامة، أو وسائل الاتصال السريعة، أو وسائل الانتقال الحديثة، أو الرعاية الصحيّة” ([16]).
أما ما يؤكده هنتنجتون بين الحين والآخر فهو أن دعوى الربط التلازمي بين التحديث والتغريب دعوى زائفة، يكذبها المنطق والواقع المشاهد في بعض المجتمعات غير الغربية على نحو دامغ([17]). ويخلص إلى القول: “وباختصار فإنَّ التحديث لا يعني التغريب بالضرورة. المجتمعات غير الغربية يمكن أن تتحدث، وقد حدث ذلك بالفعل، دون أن تتخلى عن ثقافاتها المحلية الخاصة، كما تبنت القيم والمؤسسات والممارسات الغربية بالجملة.
والأخيرة في الواقع قد تكون مستحيلة تقريبًا, مهما كانت العراقيل التي تضعها الثقافات غير الغربية التي تضعها أمام التحديث فهي أقل بكثير من تلك التي تضعها أمام التغريب” ([18]).
هوامش:
([1])عبد الناصر المودع، دليل المصطلحات السياسية، ص 121، 2006م، الطبعة الثانية، صنعاء: مركز التنمية المدنية، مؤسسة فريدريش إيبرت.
([2])فواد وهبه، المعجم الفلسفي، ص282، 1998م، د.ط، بيروت:دار قباء.
([3])ملحق التعريفات التابع لكتاب العلمانية تحت المجهر، عبد الوهاب المسيري، وعزيز العظمة، مرجع سابق ص 311، إعداد: محمّد صهيب الشريف
([4])وائل ب.حلاق، الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاق (ترجىة: عمرو عثمان – مراجعة: ثائر ديب)، ص 57، 2014م، ط الأولى: بيروت والدوحة : المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات،
([5]) صامويل هنتنجتون، صدام الحضارات: إعادة صنع النظام العالمي (ترجمة : طلعت الشايب، تقديم صلاح قنصوه)، 1999م، ط ثانية، د:م، د. ن، ص 93.
([6]) المرجع السابق، ص 93.
([7]) المرجع نفسه، ص 94.
([8]) المرجع نفسه، ص 95.
([9]) نفسه،، ص 95.
([10]) نفسه، ص 96.
([11]) نفسه ، ص109.
([12]) نفسه ، ص 114- 115.
([13]) نفسه ، ص 127.
([14]) نفسه ، ص 127.
([15]) نفسه ، ص128.
([16]) Daniel Pipes The Path of God: Islam and Political Power(New york, 25 December, 1978 ,p.p 107,191 (quoted by Samuel Huntington, Op. cit, p.p 128-129).
([17]) هنتنجتون، المرجع السابق، ص 112-113،119-121
([18]) نفسه ، ص129.