أنفع دعاء الصالحين | د. عامر الخميسي
28 فبراير، 2022
691
ألا يستوقِفُك هذا الدعاء الذي يُعتبر هو الرقمُ الأولُ من حيثُ الأدعية التي تدعو بها في حياتِك: ﴿ اهْدِنَا الصرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]، إنكَ تدعو به كل يومٍ ما لا يقل عن سبعةَ عشَر مرة وتؤمن عليه ست مراتٍ فأين أنتَ من معنى دعاء اهدنا الصراط المستقيم؟!
اغسْل جسدكَ وقلبكَ به كل يومٍ وليلةٍ واجعله يَسْكُن داخلك، فإن كل عبادةٍ على غير الصراط المستقيم عبادة لا تبلغك المأمول ولا يكون بها الوصولُ..
كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتحُ بهِ صلاة الليل، فقد كان أول ما يقف يناجي ربه يتضرَّع إلى الله قائلًا: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك إنك تَهدي من تشاءُ إلى صراطٍ مستقيم».
إن القرآنَ كله يدورُ على الفاتحة، و”الفاتحةُ” تدورُ على هذا الدعاء، فمقدمة الفاتحةِ ثناءٌ على الله وتمجيدٌ له وتحميدٌ، وهذا التمجيد هو مقدمةٌ لهذا الدعاءِ إذ الدعاء لابد أنْ يتقدمه الثناءُ على الله تعالى، ثم بعد هذه المقدمة من الثناءِ والتوسل إليه بإفرادِ العبادة يأتي المقصود ﴿ اهْدِنَا الصرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6].
ما أعظمهُ وأجله وأجملهُ من دعاء حين خص بهذه الفضيلة، وحين خص بقول الرب سبحانه وتعالى:
“قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين..”، فأعظمُ شعيرةٍ في الإسلام الصلاة يستفتُحها المسلمُ بالثناء على ربهِ تعالى، ثم يسأله الهدايةَ إلى الصراطِ المستقيمِ الذي سلكه الأنبياءُ والصديقيون والشهداءُ والصالحون، إنهم يدعون الله تعالى وعلى عينِهم هذه الآية: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النبِيينَ وَالصديقِينَ وَالشهَدَاءِ وَالصالِحِينَ ﴾ [النساء: من الآية: 69].
فالدعاءُ بالهدايةِ إلى الصراط المستقيم أنفعُ الدعاء للعبدِ؛ لأنه محتاجٌ إلى الهدايةِ أعظم من حاجتهِ إلى الأنفاسِ، ولأنه إذا سلكَ طريقَ الهداية، فذاك هو غايةُ المراد، وخيرُ الزاد، وأصلُ المقصودِ من خلقِ العبادِ، ولأن العبدَ إذا اهتدى إلى مولاهُ هدى اللهُ إليهِ كل سببٍ فَوَاتتهُ مطالبهُ، وانقادَت إليه رغائبُه..
الدعاءُ بالهدايةِ إلى الصراطِ المستقيمِ أفضلُ الدعاء؛ لأن المهتدي على نورٍ من الله ومن زوده اللهُ بِنوره انزاحت أمامهُ الحُجُب، وفُرِجت له الكُرب، ووجدَ من سعادةِ القلبِ وطمأنينة الروحِ ما ينسى في مُقابلهِ التعب والنصَب..
واعلم أن السبُلَ كثيرة وصراطُ اللهِ واحدٌ والأهواءُ متشعبةٌ على جنباتِه، ألم تسمع اللهَ يناديك: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153].
جاء في تفسير ابن جرير الطبري عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أنه سُئل عن الصراط المستقيم: ما هو؟ فقال – رضي الله عنه -: “تركنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في أدناه وطرفه الآخر في الجنة”، ومعنى هذا أن من لزم طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه بذلك يكون ماضيًا في صراط مستقيم وفي طريق قويم يفضي به إلى جنات النعيم.
إن الصراط المستقيم هو دعوةُ الرسلِ عليهم الصلاة والسلام، فقد كانوا يدعونَ الله بالثباتِ عليهِ، وهو طريقٌ واضحٌ لا عوجَ فيهِ ولا التواءَ، ومن سارَ عليهِ في هذه الدنيا سارَ عليهِ يومَ القيامة بعدَ أن يتحول إلى جسرٍ محسوسٍ ملموسٍ، فهو صراطٌ هنا وصراطٌ هناك..
صراطه هنا شرعُه ودينه القويم وصراطُه هناك جسرٌ ممدودُ على متنِ جهنم يعبُره المجتازونَ إلى الجنة ومن هُدِىَ إلى صراطهِ في الدنيا الموصل إلى رضاهُ، هُدي إلى صراطه الموصلِ إلى جنتهِ، وعلى قدرِ استقامةِ العبدِ على صراطِ الدنيا، كان ثباتهُ ومروره على صراطِ الآخرة، وعلى قدرِ ثباتِ قدمهِ على صراطهِ الدنيوي المعنوي، كانَ ثباتُ قدمهِ على الصراطِ الأخروي الحسي..
ويومَ القيامةِ يُنصَبُ الصراط على متنِ جهنم، فتختلفُ أحوالُ الناس في المرور عليه، فالمؤمنونَ يسعى نورُهم بين أيديهم وبأيمانهم، والكافرون يكونون في ظلمات يتخبطون، والمنافقون يُعطون نورا خافتا ثم يُسلبونه، والناسُ على الصراط في السير أقسامٌ، فمنهم من يمر عليه كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركابِ الإبل، ومنهم مَن يعدو عدوًا، ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يزحف زحفًا، ومنهم من تلفحهُ النار مرة وينجو مرة، ومنهم من يُخطف خطفًا ويُلقى في جهنم: ﴿ ثُم نُنَجي الذِينَ اتقَوا ونَذَرُ الظالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 72].
إن السالكَ دربَ الصراط المستقيم في عينِ اللهِ وهو قريبٌ منهُ ومن اقتربَ منهُ نالَ مقام:
﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [البقرة: 257]، فتجدهُ يسيرُ في دنياهُ على نورٍ من ربهِ، تحفه العنايةُ، وتحيطُ به المكرمات، يقيهِ اللهُ من كل ما يخاف، ويجنبه جميع ما يحذر..
سالك الصراط قد كفى عينهُ وقلبه، ووحد إخلاصه وحبه، وجعل الهم هما واحدا، وأسلمَ لله روحَه واستسلم، مستمسكٌ بالأمر عاضٌ عليهِ بالنواجذ، جعل حياته سفرا إلى ربه حاله: ﴿ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الصافات: 99].
سفرٌ يملأه الشوق والرغبةُ، وبعد الهداية يجد العبدُ طعم الرعايةِ فمحالٌ أن يتركَ اللهُ السائر إليهِ..
وإن هداك إلى الصراطِ المستقيم رزقك سيماء الصالحين، ووجَّهَ قلبك إليه، وأعانك على الخِدمة لديه!
فضع قَدمًا على قَدم، وامشِ ثابتًا، وقلبك يتحسَّـس الطريق، وامسح القذى عَن عين قلـبك في كل مرحلة من مراحلِ سيرك، واجعل مركبك اليقين وعلى عزيمتك ﴿ حَرَسًا شَدِيدًا ﴾ [الجن: 8] من الصبر، فَإنَ مَنِ اسْتَرَاحَ في سلوكِ الصراط المستقيم نَجَا، وَمَن أعرضَ عَن سيره شقيَ وتعبَ وهلك!
السالكُ صراطَ الله يعيشُ عمره سائرًا إلى اللهِ، مُخبتًا له مُنيبًا بين يديهِ، ليس في نيته إلا الله حاله:
إلهي إن لي قلبًا وقلبي
ضعيفٌ دون قربك ما احتملتُ
يفر الناس من عبدٍ لعبدٍ
ومنك إليك يا ربي فررتُ
والمعرضُ عن الصراط المستقيمِ يجدُ نفسهُ في بيداءِ التيهِ فاقدًا قلبهِ، لا يعودُ إليهِ إلا إن عادَ إلى الصراط المستقيمِ.
﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ [الفاتحة: 6]، أن تقفَ بخضوعٍ وخشوع وتسأل اللهَ هذا السؤال، ثم تضع جبهتك على الأرض وتدعو الله أن يثبتك عليه لن تذهب دعواتك سُدًى.
سيرفعُك الله درجاتٍ ويلحقك بمن أنعمَ عليهم.
في صحبة المنعم عليهم رحلة قَلب ممتعةٍ هي جِسر الوُصول إلى أَجَل مأمُول، هي أعظم الزاد إلى أكملِ مراد ولا يضرك بعدها ما وقعَ لكَ في الدنيا..
حين تكون سيرتك الذاتية سطورًا يسيرة خالية من الشهادات، والدرجات، والدورات، والمناصب، والقدرات تذكر أن صحبة المنعم عليهم يعادل ذلك كله ويزيد، بل الهداية إلى الصراطِ المستقيمِ لا يعدلها شيء في الدنيا، وأنت بها أسعد أهل الأرض..
ما أجمل مناجاتك لله بهذا الدعاء وأنت تستشعر فقرك وذِلَّتك ومسكنتك وحاجتك إلى الهداية إلى الصراط المستقيمِ، ورغبتك في أن تدخل ضمن مجموعة ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة: 7] المباركة التي يحفها القرب، وتلقى الأمانَ في رحابهِ، والسعادةَ على بابهِ، وواحسرتاه على عبدٍ وقفَ في صلاتهِ وما عرفَ سلوك الصراط المستقيمِ..
حاول أن تغرسَ الإيمان في قلبك غرسًا، فإن طريقَ الإيمان موصلٌ إلى الهداية: ﴿ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ [التغابن: 11].
وفي طريقك تشبث جيدًا، واعتصم بحبل الله المتين كما يعتصم، ويتشبث الغريقُ بمنقذه، فإن الله عز وجل يقول: ﴿ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [آل عمران: 101].
وإذا سمعتَ توجيهًا ربانيًّا، فبادر فورًا للتنفيذ، وانتظر جمالَ البشارة التي تبهجك، ألم يقل الله: ﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 17، 18].
إن المهتدينَ والسالكينَ دربَ الهداية، يجدون على الصراطِ المستقيم من السعادة والبِشر والهناءِ ما تقر به عيونهم، وتبتهج به نفوسُهم، كيف لا وقد جاهدوا أنفسهم في سبيلِ المضي على طريق الهداية، ومن جاهدَ نفسه على العلم والتعلم والدعوة إلى ربهِ، نالَ الهداية وبصَّره الله رشده، وقد سألتُ ذات مرةٍ شيخي: كيف نلتَ ما نِلت؟ قال: وقفتُ في بداية شبابي على هذه الآية: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]، وقلتُ: يا رب، عليَّ النصف وعليكَ الباقي، وبقيتُ أكررها وأدعو الله أن يفتحَ علي ويهديني سبله.
فعرفتُ سرَّ وصوله..
إن سلوك الصراط المستقيم يحتاج إلى عزيمةٍ كهذه تفلُّ الحديد، والقرآن يهدي للتي هي أقوم أصحابَه ورفقاءَه ومن يتخذه خليلًا..
اللهُمَ أَنْتَ الرَجَاء وَمِنْكَ العطَاء وَإلَيْكَ الدُعَاء، فاهدنا إلى صراطك المستقيم وثبتنا عليهِ إلى يومِ الدينِ..
إلهنا، اجعل اللهُم ما بقيَ مِن أعمارنا زَمْزَمًا! قرِّبْ خُطانا إلى بابك، وأدخلنا في رحابِك، واجعلنا من المتدبرين لكتابِك، ابسُط لنا طريقَ الوصالِ إليك، وَهبْنا نورًا من نورِك يدلنا عليك.