بديع التأملات في ترتيب بعض الآيات (1) |
13 مارس، 2022
480
أ. د. عبد السلام المجيدي
للسورة القرآنية شخصية فريدة عن أخواتها ومعجزة في بابها، حتى كأن الإعجاز يتجدد في كل سورة ومع كل آية، وخصوصًا عندما ترى كلام القرآن عن موضوع معين وإذا به يذكر أشياء أخرى تظنها غريبة في سياقها، وهي تنطق بالجمال الترتيبي، والجلال في المعاني التي تتدفق عند التأمل والتفكر والتدبر، فمثلًا:
لماذا تداخلت حقوق النساء مع حقوق اليتامى في سورة النساء؟
أيها المستبصر بالقرآن وأنت تقرأ سورة النساء ربما ألح عليك أن تسأل عن سبب تداخل حقوق النساء مع حقوق اليتامى.. أفما كان يمكن أن يذكر حقوق كلٍّ على حدة كما جرت عليه طبيعة التأليف في الأمور المتماثلة؟ أليس أنسب للفهم وأقرب لئلا يجور الفكر أو يستغلق العقل عند القراءة؟
لا تثريب عليك أن تنظر للأمر من هذه الزاوية؛ إذ تلك الفكرة العجلى التي يقذفها الذهن الكليل بادي الرأي، لكنك ينبغي أن تعلم أن للكلام الإلهي الخاتم المعجز طبيعةً تليق بإعجازه؛ فمن أسباب التداخل:
أولًا: تكاثر المعاني في مجالين مختلفين تقاربًا أو تباعدًا..
وسوف ترى تلك المعاني المنهمرة في كتابي مفصل تفسير سورة النساء (بث الحياة الإنسانية).
ثانيًا: إشراك النساء بفاعليةٍ ليسهمن في القيام على حقوق اليتامى،
وكيف يمكن أن يفعلن ذلك إن لم يحدث عندهن الاستقرار الحقيقي، ولذا كان لا بد من الكلام عن حقوقهن قبل الوصول إلى المرحلة الأخيرة في دفع المال لليتامى عندما يصلون إلى مرحلة التأهل الحقيقي التي تجد إسهام النساء فيها بارزًا.
إن المتدبر يجد معاني البلاغ المبين في التداخل بين المواضيع التي تتناولها آيات السورة الواحدة حتى أن ذكر بعض الأحكام في مكان يظن القارئ لأول وهلة أنها في غير مواضعها وهاك مثلًا على ذلك:
لماذا جاءت آية التعدد في أول سورة النساء؟
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ} [النساء: 3].
الجواب: جاءت هذه الآية في أحسن موضع وأجمل مكان، لقد هدفت إلى لفت النظر لحق المجتمع في إشاعة هذا التكامل الاجتماعي (التعدد المسؤول) في أوساط الناس قبل أن يكون حلًا للإشباع الجسدي.. وكانت ثقافة التعدد شائعة بين المسلمين قبل أن تأتي التأثيرات الرديئة التي صحبت ما يسمى زورًا عصر النهضة، ولم تقابل ثقافة التعدد إلا بنوع من الغيرة المحمودة المنضبطة، وإذا كان الرجال يظهر اختبارهم في التسليم لحكم الله تعالى بالصَّدَقة في المال أو بذل الجهد في القربات مثل الإيثار ونحوه، فإن النساء يُختبرن في التسليم لحكم الله تعالى بقبول هذا الحكم الشرعي الواضح، وهنا تعلم سرًّا من أسرار اجتماع آية التعدد في أول هذه السورة مع قوله تعالى في وسطها: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا} [النساء: 65]، وأصبح تناول هذا الموضوع في بعض الأوساط الاجتماعية مثيرًا للمشاكل بدلًا من أن يكون هو حلًّا لها، والغيرة مطلوبة وبها تكون الأنثى أنثى، ولكن الغيرة التي تؤدي إلى الاعتراض على حكم الله تعالى، والأنانية المفرطة في حق بقية النساء أمرٌ له حسابه وعواقبه، والله تعالى يقول مقابل الثقافة الوافدة التلفزيونية في ختام هذه السورة {يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ أَن تَضِلُّواْۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ } [النساء: 176].
وهكذا بان لك أن ذِكْر الحكم في أول السورة اختبارٌ للرجل وللمرأة على حد سواء ثم إذا بقيت نوازع النفس وحظوظها فإن بقية السورة تعالجها، وفي ذلك عبرة لمن تفكر وبصيرة لمن تدبر.