المقالات غير مصنف

الإنسان بين رحمة الشريعة وضعف الطبيعة

هاك نبأ تتعجب منه يخبرك بالكرم الإلهي الذي يقوي الضعف الإنساني، ولكن أمام الحكمة يأتي الطيش وأمام القوة ينبو الضعف وأمام العلم يقف الجهل، وهنا ترزح البشرية في مهاوي الردى والضياع، وتعال لترى مثلًا فإن من مقاصد القرآن العظمى إرادة الرحمة بالإنسانية بتشريع الأرفق بها، والأيسر عليها، والأخف لتتبعه؛ فتجد الحياة الدنيوية الطيبة، والسعادة الأخروية الـمنتظرة، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]

فالتشريع الإلهي للبشرية في كل المجالات أخف عليها من كل النظم والتشريعات، وأوفق لفطرتها وطبيعة خلقها مهما بلغت خبرتها، وكثرت تجاربها، والإصرار على عدم تحكيم الشريعة تكلف الإنسان المشقات الحياتية الهائلة، وتجلب على البشرية الشقاء.. هل تريد الدليل؟

انظر حولك في هذا العالم الحزين كيف يموت الملايين في الحروب، والجوع والمرض فيما دهاقنة المنظمات الدولية، وكهان الأمم المتحالفة يجتمعون، ويأكلون ويشربون ويُصرِّحون ويتاجرون.

فالآية تدل على إرادة الله -عز وجل- أن ييسر للإنسان أقصر الطرق في حياته من الأحكام والنظام؛ إذ الإنسان أضعف من أن يجد هذا الطريق اليسير بنفسه مباشرة فإن الإنسان يلجأ إلى الاستفادة من تراكم الخبرات بعد الخبرات عبر الأجيال للبحث عن نُظُمٍ أمثل أو أفضل وأحيانًا عن نُظُمٍ أشد مكرًا، وأخسر أمرًا، والله سبحانه يريد لنا التشريع لما نحبه بأخصر الطرق، وهذا المقصد الكبير يكرر الله -عز وجل- ذكره في القرآن الكريم بأساليب مختلفة كقوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عليهم} [الأعراف: 157] وَقَوْله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وَقَوْله: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].

وبين الله -عز وجل- سبب تعليمه لنا مما يوجب التخفيف فقال: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} وضعف الإنسان يستبين في جهات:

الجهة الأولى: ضعفه الذاتي أمام المعرفة الكونية نظرًا لعمره المحدود، وضعف خَلْقه مقارنة بما في الكون: فالإنسان فردًا لا يستطيع تعلم كيفية التعامل مع أبناء جنسه بسهولة، فكيف يطيق معرفة التشريعات اللازمة للتعامل مع الكون من حوله؟ بل إن الأجيال يحتاجون إلى تراكمٍ كبير في الخبرات على مدى القرون للوصول إلى بعض الحقائق الكونية ليقيموا عليها بناء تشريعيًّا مناسبًا، فخفف الله -عز وجل- عنا ذلك بأن بيَّن لنا أهم التشريعات اللازمة لتحقيق النصر والنجاح على المستوى الفردي والجماعي.

الجهة الثانية: ضعف الإنسان أمام الإغراء الشهواني الجنسي حتى يغلبه على عقله؛ إذ داعية الشهوة قوية جدًّا عنده بالنسبة للشهوات الجنسية، حتى روى ابن أبي حاتم عن طَاوُوس: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} «أَيْ: فِي أَمْرِ النِّسَاءِ، وَقَالَ وَكِيعٌ: يَذْهَبُ عَقْلُهُ عِنْدَهُنَّ»، والمقصود شدة رغبة النساء في الرجال، ورغبة الرجال في النساء، وأنت ترى أن الشهوة تغلب على عقل المرء فربما تناول ما يضره ويدمره عندما يأخذ المحرمات، فبين الله -عز وجل- الأحكام المناسبة للحفاظ على الحياة البشرية، والتي تحقق له الإشباع الشهواني في غير مضرة تعود عليه، وقيَّد الحصول على الشهوات المختلفة بما يجعل الحصول عليها سبيلًا للذة الدائمة لا المؤقتة الزائلة.

الجهة الثالثة: ضعف الإنسان أمام الشهوات المالية والزعامة الشخصية والجاه والتصدر مما يُجرِّئه على السرقة والتلاعب المالي والاختلاس والفساد في التعامل مع المال العام والخاص.

فخفف الله -عز وجل- عنه هذه الأثقال الهائلة التي يجدها بسبب ضعفه بأنْ شرع له التشريعات الصادرة عمن أحاط بالكون علمًا، ووضع له الأحكام المناسبة للحفاظ على الحياة البشرية، والتي تحقق له الإشباع الشهواني في غير مضرة تعود عليه.

مثال على أن التخفيف مقصد شرعي:

وهنا لا بد من ذكر قاعدة تفسيرية مهمة هي: العموم التقعيدي لا يحصره ضرب المثال التفصيلي، ويمكنك أن تقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السياق:

فعموم الألفاظ تجعلنا نحملها على عمومها، وورود مثال تفصيلي في السياق لا يعني حصر العموم عليه، ومن أمثلة ذلك أن الله تعالى ذكر أحكام النكاح والتخفيف في إلزام الحر بنكاح الحرة، ثم قال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (النساء: 28)، فأوهمت عبارة الطبري أن ذلك من أجل آخر حكم في السياق فقال: «يعني جل ثناؤه بقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}، يريد الله -عز وجل- أن يُيسر عليكم، بإذنه لكم في نكاح الفتيات المؤمنات إذا لم تستطيعوا طولًا لحرة، {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}، يقول: يسَّر ذلك عليكم إذا كنتم غيرَ مستطيعي الطَّوْل للحرائر؛ لأنكم خُلِقتم ضعفاء عَجَزةً عن ترك جماع النساء، قليلي الصبر عنه، فأذن لكم في نكاح فتياتكم المؤمنات عند خوفكم العَنَت على أنفسكم، ولم تجدُوا طولًا لحرة، لئلا تزنوا، لقلّة صبركم على ترك جماع النساء»[1].. ولكن الصحيح أن هذه الآية تقعيدٌ عام لكل ما ورد قبل الآية مما يتعلق بأحكام الشؤون الاجتماعية وأحكام الأسرة وحقوق اليتامى في سورة النساء، وكذلك أحكام الأموال والشؤون الاستثمارية والعلاقات الأسرية والدولية التي بعدها.. بل إن هذه الآية تتعلق بالتشريعات الواردة في القرآن كله، فلا يقِّيدُ السياقُ لفظَها، ولذا روى الطبري نفسه في هذا الموضع عن مجاهد: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} في نكاح الأمة، وفي كل شيء فيه يُسر».

سواكن العطف قبل متحركاته تشير للحب الإلهي ولكن الإنسان ضعيف الالتقاط لا يسمع ولا يبصر إلا أسوار الجهل التي بناها بغفلته ليكون أسيرها


[1] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 215).

[2] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 215)، وكذا بين عموم هذه الآيات لما ورد في هذه السورة وغيرها ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات في2/267.