قصتي مع القرآن
24 مايو، 2022
1377
“البداية المشرقة للبصائر القرآنية”
مع أستاذي
في المرحلة (المتوسطة) كان أستاذنا/ يحيى الراشد أستاذ التفسير يطير بنا في محاولة تدبر آي القرآن المجيد.. كان شخصية يتعلق بها قلبك لكن فؤادي تعلق أكثر بأسلوبه في الشرح والبيان واستخراج المعاني.. أستاذٌ مثله ليس غريبًا أن يسألني حينها: هل وضعت خطة لنفسك تتعلق بالدراسة الجامعية؟ سؤال بادرته إجابته: نعم!
وبينما أنا أحاول أن أعرض بضاعة تفكيري المزجاة فاجأني بحثٍّ تشعر معه باللذة: لا ترضَ بشيء دون الدكتوراه..
في رحلةٍ شبابية ماتعة
انقضت أيام المرحلة (المتوسطة) وجاءت أيام (الثانوية) المليئة بتوقد الحياة وضجيج طموحاتها.. حينها رجعتُ إلى صنعاء، وفي رحلةٍ شبابية ماتعة بتنا ليلة الجمعة في مرتفقنا الشبابي، وفي صباحها تحلقنا نتلو آيًا من القرآن العظيم يتقدمها سورة الكهف، ونتبادل تصحيح التلاوة، ومشاعر الأنس بكلامه:
فــمــا أجلَّ حديــثًا في تآلـــفـــنا
وما أرقَّ عتـــابًا في تصـــافــــيـــنـــا
وفي الرواق وقد ألفيــتـــنا زمرًا
نشـــدو بما جاء في طه وياســــينا
يا حبـــذا لهفةٌ تحـــتل جانـــحنا
وذكريـــاتٌ من الماضي تغـــــذيـــنا
لها الخــوالج تهفو كلما ذكــرت
مرابــعًا قد أقـــمــنا عنـدها حيــنــا
فأضاءت لي معانٍ تربط بين قصص سورة الكهف، وبسم ثغري حينها، وقلت لصحبي حين بدأنا نتبادل خواطر التدبر: هل تأذنون لي بتقديم (إشراقاتٍ قرآنية) من سورة الكهف؟
كانت تلك بدايةً حقيقية!
إنها البداية المشرقة لشخصي الضعيف مع سيلٍ من البصائر القرآنية المتدفقة.. جعلتني تلك البصائر أنظر إلى آيات القرآن فأهفو إلى امتلاك ضيائها، والشعور بالقوة في بيناتها، وأتطلع إلى وقتٍ أحسُّ معها بأن يقال لي -كما قيل لموسى عليه السلام من قبل-: {لَا تَخفْ} [طه: 68] لا تخف! أظهرها {إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه: 68]
وإذ قذفتُ بنفسي في تابوت الحياة، وألقيت بعقلي في معتركها أويتُ إلى كهف المناجاة الإلهية عسى ربي أن ينشر لي من رحمته، ويهيئ لي من أمري مرفقًا، فأجرى الله على لساني أن أَلِظَّ بهذا الدعاء: اللهمَّ يسر لي إتمام تفسير كتابك على أحسنِ وجهٍ، وأجملِه، وأكملِه، وأحبِّه إليك، وأكثره تأثيرًا في نفوس الخلق، وأعظمِه بيانًا لإعجاز آياتك، واجعل ذلك على نحوٍ لم أُسبَقْ إليه، وأَلْقِ القبول في قلوب العالَم له إلى يوم الدين، وارفعني به مكانًا عليًّا يا أرحم الراحمين، واجعلني بذلك من المخلِصين الشاكرين، وتالله إني لأرجو من ربي أن يُلحقني بالصالحين، إنما شأني أني:
ظامئٌ، والدموع تسـقي ظمايا
وســراب القفار يســـقي أسـايا
الأماني أمـــــــام عيـــــني أُراها
تطحن الفكر لم تصلها خطايا
هذه بداية قصتي مع القرآن.
لقد أخذتُ ميثاقًا على نفسي مذ وعيتُ التطام أمواج الحياة بتعقيداتها ألا أبرحَ حتى أبلغ مجامع أنواره، ومركز بصائره وأسراره، ولمَ لا؟
وأحاول أن أسلك في ذلك ما قرره ابن تيمية -رحمه الله- وهو يتتبع الفرق بين جهود الصحابة رضي الله عنهم في نقل رسالة الإسلام، فيقول: «وَأَيْنَ تَقَعُ فَتَاوَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَفْسِيرُهُ وَاسْتِنْبَاطُهُ مِنْ فَتَاوَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَتَفْسِيرِهِ؟ وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَحْفَظُ مِنْهُ؛ بَلْ هُوَ حَافِظُ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ: يُؤَدِّي الْحَدِيثَ كَمَا سَمِعَهُ وَيَدْرُسُهُ بِاللَّيْلِ دَرْسًا؛ فَكَانَتْ هِمَّتُهُ مَصْرُوفَةً إلَى الْحِفْظِ وَتَبْلِيغِ مَا حَفِظَهُ كَمَا سَمِعَهُ وَهِمَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَصْرُوفَةٌ إلَى التَّفَقُّهِ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَتَفْجِيرِ النُّصُوصِ وَشَقِّ الْأَنْهَارِ مِنْهَا وَاسْتِخْرَاجِ كُنُوزِهَا. وَهَكَذَا وَرَثَتُهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ: اعْتَمَدُوا فِي دِينِهِمْ عَلَى اسْتِنْبَاطِ النُّصُوصِ لَا عَلَى خَيَالٍ فَلْسَفِيٍّ وَلَا رَأْيٍ قِيَاسِيٍّ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآرَاءِ الْمُبْتَدَعَاتِ. لَا جَرَمَ كَانَتْ الدَّائِرَةُ وَالثَّنَاءُ الصِّدْقُ وَالْجَزَاءُ الْعَاجِلُ وَالْآجِلُ: لِوَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ التَّابِعِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة»[1] .
وها هو الله جل مجده يرينا المعجزات التي لا تنقضي في آياته القرآنية؛ فوجوه إعجازه لا تنفد، ومعالم جاذبيته تترى وتتجدد، وهو الذي جعل الله ألفاظه وبصائره روحًا تعطي الإنسانية معاني حياتها الحقيقية، ونورًا يسوقها إلى الرؤية الصادقة الشاملة للوجود مكانًا وزمانًا: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } [الشورى: 52، 53]. وقد امتن بفضله ومحض جوده فألهمني العزم على وضع هذا التفسير الموسوم بـ (بصائر المعرفة القرآنية) الذي أرجو الله أن ييسر ظهور إصداراته تباعا في أفانينه الثلاثة: المفصل والوسيط والوجيز، آمين.
[1] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4 / 94.