ما المشهدان اللذان تصورهما القراءتان في قوله تعالى {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}؟
21 سبتمبر، 2022
872
أسرار القراءات القرآنية
قراءتان ومشهدان
تبصرنا هذه الجملة القرآنية بأن
الحذر من أكل أموال اليتامى ليس بشاعة للفعل في الدنيا فقط، وإنما حذرًا من عقوبة الآخرة التي تطال الآكل مسلمًا كان أم كافرًا.
ويُبَصِّرُنا بذلك قوله تعالى: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]:
إذ تجد في هذا الموضع قراءتين تصوران مشهدين:
الـمشهد الأول: قرأ الجمهور: ﴿وَسَيَصْلَوْنَ﴾ بفتح الياء على البناء للمعلوم، فهم سيصلون بأنفسهم سعيرًا؛ وذلك أنهم يريدون الفرار، فيتساءلون عن الـمفر: {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} [القيامة: 10]، ويحاولون الفرار كما قال تعالى: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [غافر: 33]، فيُرَدُّ عليهم: {كَلَّا لَا وَزَرَ} [القيامة: 11]، فيتأذون بضيق الـمقام وطوله يوم القيامة؛ وكيف لا يتأذون والنبي صلى الله عليه وسلم ينبهنا إلى التعوذ منه، فقد حكت عائشة أن رسول الله كان يستفتح قيام الليل بأن يكبر عشرًا، ويحمد عشرًا، ويسبح عشرًا، ويهلل عشرًا، ويستغفر عشرًا، ويقول: «اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني. أعوذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة».
وضيق المقام يوم القيامة شيء هائل حتى يتمنى الكافر الراحة من ذلك الـمقام، ولو إلى النار، فعن عبد الله بن مسعود عن النبي قال: «إن الكافر ليلجمه العرق يوم القيامة، فيقول: أرحني ولو إلى النار» ، فربما يصلاها بنفسه إذ لا مفر له غيرها، وقد برزت له، وقد قال الله عن حالة الاختيار في صليها {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } [الإسراء: 18، 19]، وقال جل مجده {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [الليل: 15، 16]، {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى: 11، 12]، فيتقدم ليصلاها، وعندما يجد شوبها، ويشعر بفداحة المصيبة في صليها ربما هرب، فتأخذه الملائكة وتقرنه بالأصفاد والأغلال، فتصليه سعيرًا، وهنا يأتي المشهد الثاني.. إنه:
الـمشهد الثاني: المؤلم، وتصوره قراءة ابْن عَامِرٍ، وشعبة عَنْ عَاصِمٍ: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} بِضَمِّ اليَاءِ على البناء لما لم يسم فاعله، حيث توضح القراءة أن هناك من سيصليهم النار، فهي تصور لنا مشهد هؤلاء الـمجرمين وهم يصيبهم صَلى النار، فمن ذا يفعل بهم ذلك؟ ربما الملائكة التي قرنتهم في الأصفاد كما قال الله جل مجده: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} [إبراهيم: 49]، فهي تجرهم وتسوقهم سوقًا مقرنين لرميهم في السعير {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا } [مريم: 86]، فتصليهم نارًا، ومن ذلك قَوله تَعَالَى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } [المدثر: 26]، وربما كان الذي يصليهم النار جهنم ذاتها التي تكاد تميز من الغيظ يخرج عنقٌ منها في مشاهد القيامة فيصيب الجبابرة كما قال النبي o: «يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَأُذُنَانِ يَسْمَعُ بِهِمَا، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ، فَيَقُولُ: إِنِّي وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ: بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَبِكُلِّ مَنِ ادَّعَى مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ، وَالْمُصَوِّرِينَ» .
وبذلك تجتمع القراءتان في تصوير هذا المشهد الرهيب المخيف، ويذكرنا الأَوْزَاعِيُّ بالعبرة في هذه الآية فيقول: «أَيُّهَا النَّاسُ! تَقَوَّوْا بِهَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي أَصْبَحتُم فِيْهَا عَلَى الهَرَبِ مِنْ نَارِ اللهِ المُوْقَدَةِ، الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ، فَإِنَّكُم فِي دَارٍ، الثَّوَاءُ فِيْهَا قَلِيْلٌ، وَأَنْتُم عن قريبٍ مُرْتَحِلُوْنَ، وَخَلاَئِفُ بَعْدَ القُرُوْنِ، الَّذِيْنَ أكلوا مِنَ الدُّنْيَا زَهْرَتَهَا، كَانُوا أَطوَلَ مِنْكُم أَعمَارًا، وَأَقوى أَجسَامًا، وَأَعْظَمَ آثَارًا، فَجَذَّذوا الجِبَالَ، وَجَابُوا الصُّخُورَ بالواد، وَنَقَّبُوا فِي البِلاَدِ، مُؤَيَّدِيْنَ بِبَطشٍ شَدِيْدٍ، وَأَجسَامٍ كَالعِمَادِ، فَمَا لَبِثَتِ اللَّيَالِي والأَيَّامُ أَنْ طَوَتْ مُدَّتَهُم، وَعَفَّتْ آثَارَهُم، وَأَخْوَتْ مَنَازِلَهُم، وَأَنْسَتْ ذِكْرَهُم: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا } [مريم: 98]، كَانُوا بِلَهوِ الأَمَلِ آمِنِيْنَ، وَعن مِيْقَاتِ يَوْم الحق غَافِلِيْنَ، وَفي صَبَاحِ هلكةٍ نَادِمِيْنَ، ثُمَّ إِنَّكُم قَدْ عَلِمْتُم مَا نَزَلَ بِسَاحْتِهِم بَيَاتًا مِنْ عُقُوبَةِ اللهِ، {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ } [الصافات: 177] فَأَصْبَحَ كَثِيْرٌ مِنْهُم فِي دِيَارِهِم جَاثِمِيْنَ، وَأَصْبَحَ البَاقُوْنَ يَنْظُرُوْنَ فِي آثَارِ نِقَمِهِ، وَزَوَالِ نِعَمِهِ، وَمَسَاكِنَ خَاوِيَةً، فِيْهَا آيَةٌ لِلَّذِيْنَ يَخَافُوْنَ العَذَابَ الأَلِيمَ، وَعِبْرَةٌ لِمَنْ يَخشَى».
أ.د/ عبد السلام المجيدي
مفصل تفسير سورة النساء