ما القانون القرآني الغائب في الحياة الزوجية؟
9 نوفمبر، 2022
758
هل تقوم البيوت على الحب؟
النظرة القرآنية للحياة الزوجية تخالف القواعد التي وضعتها الليبرالية العالمية في الأسس والمقاصد والوسائل، ومع هيمنة موجة التغريب الثقافي أصبحت المرأة محصورة في صورتها ويحكم عليها من خلالها، وهنا يأتي القرآن ليبين قصور هذه النظرة، ويدعو الزوج إلى الصبر على زوجته، ورحمتها، وعدم النفور منها لبعض العيوب التي تسبب كراهيتها.
ويُبَصِّرُنا بذلك قوله: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
وهذا قانونٌ حياتيٌ كبيرٌ: أن يتبصر الـمرء عواقب الأمور، ولا يغتر ببوارق العوارض الظاهرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَفْرَك مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ سَخِطَ مِنْهَا خُلُقا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» [1].
فلأجل الصبر على ما يبدر من المرأة من أخطاء وهنات وضع الله هذه القاعدة الجليلة الكبيرة وهذه قاعدة عظيمة، وحكمةٌ ذات فوائد حياتية وتربوية عميمة تشمل كل جوانب الحياة، فينبغي للمرء أن يتبع مراد الله وأمره ولو كان هواه في غيره، فهو لا يعلم مقدار الخير الذي سيجده في ذلك، فعن سَهْل بْن حُنَيْفٍ قَالَ: اتَّهِمُوا الرَّأْيَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُني يَوْمَ أَبِى جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَهُ لَرَدَدْتُ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ [2]، ويتحمل كل منهما نقص الآخر عندما يكون قابلًا لذلك، فعن كهمس الهلالي قال: كنت عند عمر فبينما نحن جلوس عنده إذ جاءت امرأة فجلست إليه فقالت:
يا أمير المؤمنين! إن زوجي قد كثر شره وقل خيره، فقال لها: من زوجك؟ قالت: أبو سلمة، قال: إن ذاك رجل له صحبة، وإنه لرجل صدق، ثم قال عمر لرجل عنده جالس: أليس كذلك؟ قال: يا أمير المؤمنين! لا نعرفه إلا بما قلت، فقال لرجل: قم فادعه لي، فقامت المرأة حين أرسل إلى زوجها فقعدت خلف عمر، فلم يلبث أن جاءا معًا حتى جلس بين يدي عمر، فقال عمر: ما تقول هذه الجالسة خلفي؟ قال:
ومن هذه يا أمير المؤمنين؟ قال: هذه امرأتك، قال: وتقول ماذا؟ قال:
تزعم أنه قلَّ خيرك وكَثُرَ شرُّك، قال: بئسما قالت يا أمير المؤمنين! إنها لمن صالح نسائهم، أكثرهن كسوة، وأكثرهن رفاهية بيت، ولكنَّ فَحْلَها بَليَ -أي ضعف زوجها عن أمور النكاح- فقال عمر للمرأة: ما تقولين؟ قالت: صدق، فقام عمر إليها بالدرة فتناولها بها، ثم قال: أي عدوة نفسها! أكلت ماله وأفنيت شبابه، ثم أنشأت تخبرين بما ليس فيه! قالت: يا أمير المؤمنين! لا تعجل؛ فوالله لا أجلس هذا المجلس أبدا، فأمر لها بثلاث أثواب، فقال: خذي هذا بما صنعت بك، وإياك أن تشتكي هذا الشيخ! قال: فكأني أنظر إليها قامت ومعها الثياب، ثم أقبل على زوجها فقال: لا يحملك ما رأيتني صنعت بها أن تسيء إليها! فقال: ما كنت لأفعل، قال: فانصرفا[3].
فالمقصود من هذا القانون الحيوي الكبير أن يبصر المرء في عواقب الأمور، ولا يغتر ببوارق العوارض الظاهرة، ولا يصر على فعل الملائم له، أو الرائق لعقله وهواه.. لا ينبغي أن يقدم رغباته ونزواته، ولذا قيل: أَوَّلُ وَصْلِ العَبْدِ هِجْرَانُهُ لِنَفْسِهِ، وَأَوَّلُ هِجْرَانِ العَبْدِ لِلْحَقِّ تَعَالَى مُوَاصَلَتُهُ لِنَفْسِهِ، والمقصود أن ينهى نفسه عن الهوى المهين يبتغي بذلك رفعتها وكرامتها، وهذا القانون العام يتم فهمه فيما يتعلق بمعاشرة النساء بأن يقال: فإن كرهتموهن فلا تبادروا إلى المضاجرة والمنافرة والمفارقة، بل اصبروا عليهن واذكروا محاسن أخلاقهن الأخرى، التي قد تكتنز الخير الكثير كأن يعطف عليها، فيرزق الرجل ولدها، ويجعل الله في ولدها خيرًا كثيرًا.
وهذا القانون {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} «وهذه اللمسة الأخيرة في الآية، تعلق النفس بالله، وتهدئ من فورة الغضب، وتفثأ من حدة الكره، حتى يعاود الإنسان نفسه في هدوء وحتى لا تكون العلاقة الزوجية ريشة في مهب الرياح. فهي مربوطة العرى بالعروة الوثقى. العروة الدائمة. العروة التي تربط بين قلب المؤمن وربه، وهي أوثق العرى وأبقاها» [4].
وقد بين عمر بن الخطاب في تربيته القرآنية الأوابة المخبتة للمجتمع المسلم ما يترتب على هذا القانون، وهو النظر إلى الرحمة بين الزوجين، وعدم الاكتفاء بالنظر إلى المودة التي هي المحبة، فعن ابن أبي عزرة الدؤلي، وكان في خلافة عمر يخالع النساء التي يتزوج منهن، فطار له في الناس من ذلك أحدوثة فكرهها، فلما علم بذلك، قام بعبد الله بن الأرقم حتى أدخله بيته، فقال لامرأته، وابن الأرقم يسمع: أنشدك بالله، هل تبغضينني؟ فقالت امرأته: لا تناشدني. قال: بلى. فقالت: اللهم نعم. فقال ابن أبي عزرة لعبد الله: أتسمع.
ثم انطلق حتى أتى عمر، ثم قال: يا أمير المؤمنين، يحدثون أني أظلم النساء، وأخلعهن، فاسأل عبد الله بن الأرقم عما سمع من امرأتي، فسأل عمر عبد الله، فأخبره، فأرسل عمر إلى امرأته، فجاءت، فقال لها: «أنت التي تحدثين زوجك أنك تبغضينه؟»، قالت: يا أمير المؤمنين، إني أول من تاب، وراجع أمر الله، إنه يا أمير المؤمنين أنشدني بالله، فتحرجت أن أكذب، أفأكذب يا أمير المؤمنين؟ قال:
«نعم، فاكذبي -أي قولي كلامًا فيه مدارة له، وليس المراد استحلال الكذب- فإن كانت إحداكن لا تحب أحدًا، فلا تحدثه بذلك، فإن أقل البيوت الذي يبنى على الحب، ولكن الناس يتعاشرون بالإسلام، والإحسان» [5]، والمراد هنا ليس نفي البحث عن الحب بل الصبر على الحياة الزوجية مادامت الحياة في ظلها ممكنة.
[1] مسلم (4 / 178) برقم 3721، ومعنى يَفرك: يبغض.
[2] صحيح البخاري – ط. المكنز (14/ 81).
[3] كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال (16 / 555) برقم 45860.
[4] في ظلال القرآن (1/ 605) .
[5] أخرجه البخاري في التاريخ الكبير مختصرًا (4/152)، والفسوى في المعرفة والتاريخ (1/392)، وابن جرير الطبري في تهذيب الآثار: مسند علي بن أبي طالب h: (142) رقم (236).